سفينة ثانية إلى قعر البحر.. القرار يُفرَض بالنار
أقلَّ من أربعٍ وعشرين ساعة، رسخت القوات المسلحة اليمنية معادلة الردع في البحر الأحمر، بإغراق سفينة ثانية كانت متجهة إلى ميناء أم الرشراش (إيلات) في فلسطين المحتلّة.
عملية نوعية موثقة بالصوت والصورة، جاءت تأكيدًا على أن القرار اليمني في ساحة البحر بات نافذًا، وغيرَ قابل للتجاوز، وما زادتها رمزية عملية الإنقاذ الإنساني لطاقم السفينة المستهدَفة.
في التفاصيل، استهدفت القوات البحرية اليمنية سفينة (إتيرنتي سي) “Eternity C” بزورقٍ مسيّر وستة صواريخ مجنحة وباليستية، في تحَرّك تكتيكي بالغ الأثر، وجزء من تصعيدٍ استراتيجي موجه نحو أهداف مركبة ومضبوطة بدقة.
ما وراء الإغراق: رسائل بالنار والسلام
إذ لا يمكن فصل إغراق سفينتين خلال يوم، عن السياق الدامي في غزة؛ فاستهداف سفينة متجهة إلى “إيلات” بالتحديد، يعكس تصميمًا يمنيًّا على عزل الكيان الإسرائيلي بحريًّا، وتجفيف شرايينه الاقتصادية، ضمن استراتيجية الحصار المضاد.
وما بين هزيم الصواريخ وهدير الزوارق المسيّرة، تبرز صورة لا تقل أهميّة عن الحدث، وهي مشهد إنقاذ طاقم السفينة، في رسالةٍ واضحة إلى العالم أن اليمن لا يستهدف المدنيين كما يفعل الكيان؛ بل يضرب سفن الشركات المخالفة للتحذيرات والمشاركة للمجرم تجاريًّا في جرائم الإبادة الجماعية، ثم تُعامَل طواقمُها بما تمليه الأخلاق الإسلامية والمبادئ الإنسانية.
منذُ بدء المعركة البحرية ظل استهداف ميناء “أم الرشراش” مرادفًا لتصعيدٍ يمني نوعي، لأهم نافذة صهيونية على خطوط الشحن البحري، واختيار هذه النقطة لها دلالاتها الجغرافية والعسكرية والسياسية.
وفقًا للمعطيات الميدانية؛ فَــإنَّ أهميّة أم الرشراش جغرافيًّا تتمثل في كونها البوابة الجنوبية والوحيدة لكيان الاحتلال، ونافذته المائية على البحر الأحمر وشرق وجنوب العالم.
عسكريًّا؛ فَــإنَّ الميناء تحيط به منشآت أمنية وبحرية حساسة، وتجاوره قواعدُ أمريكية وغربية مباشرة أَو غير مباشرة، معلَنة أو غير معلَنة، إضافة إلى أهميته سياسيًّا؛ إذ تتمثل في أن أي استهداف له يُعد صفعةً مباشرةً لما يسميها العدوّ “السيادة الإسرائيلية” ولواشنطن معًا.
قراءة في استراتيجية صنعاء: التصعيد الذكي والموجّه
ما يجري ليس عملًا فوضويًّا؛ بل نهجٌ عسكريٌّ دقيقٌ يستند إلى استراتيجيةٍ مدروسةٌ قوامُها يتحدّد في التحذير أولًا، ثم الاستهداف، بعد أن توجّـه القوات المسلحة اليمنية نداءات واضحة، وبلغةٍ مفهومة تتيح لربابنة السفن فرصة الانسحاب.
وتاليًا يأتي الضرب المحسوب؛ أي لا يُطلَق صاروخ إلا بعد التثبُّت من الوجهة والعلاقة مع الاحتلال، مُرورًا بعمليات الإجلاء والإنقاذ والرعاية، التي عززت البعد الأخلاقي لهذه العملية وغيرها، وإحراج كيان العدوّ وداعميه أمام القانون الدولي.
إضافة إلى الرسائل المتدرجة؛ فالإغراق وإن جاءَ رسالة تصعيد وتهديد، لكنه قابلٌ للتوقف فور الاستجابة للمطالب، وبالتالي فَــإنَّ جوهر معادلة الردع اليمنية الراهنة، تبرز في قوة الموقف، الذي يتحدث عنه المشهد، بينما قوة المشهد لا تتكلم كَثيرًا؛ لأَنَّها تجعلك تعيش تفاصيله.
ويرى مراقبون أن ما لم يُفهم من صنعاء بلغة البيانات، تقوله عمليًّا في عَرض البحر وطوله، وتوجّـهه إلى من يهمه الأمر، ليتم تثبيت المعادلة؛ من يتجه إلى الموانئ المحتلّة؛ فليتوقع الإغراق، ومن يتجاهل النداءات؛ فلن ينقذه دعم واشنطن ولا تهويل الإعلام الغربي والعربي الصهيوني والمتصهين.
اللافت أن الصمت الأمريكي هذه المرة كان أكثر تعبيرًا من الكلام؛ فحتى اللحظة، لا تصريح رسمي من إدارة المعتوه ترامب يفسر أَو يبرّر أَو حتى يهدّد، غير أن الصمت المطبق يعكسُ صدمةً عميقة، واعترافًا ضمنيًّا بأن واشنطن التي زعمت أن اليمنيين استسلموا لها؛ باتت عاجزة عن ردعهم، لا سياسيًّا ولا عسكريًّا.
وتحوّل البحران الأحمر والعربي وما بعدهما إلى مناطق اشتباك مفتوحة وحظر عملي على كيان العدوّ الإسرائيلي؛ وباتت شركات الشحن في موقف معقّد، والتورط مع الاحتلال يساوي خطرًا حقيقيًّا.
واليمن يضع الدولَ المتواطئة في كسر الحظر، أمامَ مسؤولياتها، لا سِـيَّـما بعضَ الدول العربية، وحلفاء الكيان، خُصُوصًا في الغرب، والذين بدأوا يلمسون أن الحمايةَ الجويةَ لا تنفعُ في مواجهة “معادلة البحر”.
استقراء للمستقبل: نحو فرض الشروط بالقوة
وفقًا لمؤشرات الميدان؛ فَــإنَّ الاستمرارَ بهذا النوع من العمليات يوصل إلى نقطة حاسمة، وهي أن صنعاء لا تطلق النار مِن أجلِ النار؛ بل مِن أجلِ فرض مطالب المقاومة الفلسطينية على طاولة التفاوض: (وقف العدوان على غزة – رفع الحصار بالكامل – تثبيت حق المقاومة في الدفاع والردع).
وما لم يستجب العدوّ؛ فالمزيدُ من السفن ستُغرَق، والعملياتُ قد تتوسَّعُ إلى المحيط الهندي جنوبًا، وقناة السويس شمالًا، وربما البحر المتوسط.
اليوم بات اليمنُ يتقدمُ رأسَ حربة مشهد الردع والمبادرة، ويفرض منطقه ومطالبه بالنار والعقل بالتكتيك والإنقاذ، ويجعل من البحر مِنصةَ ضغط استراتيجية تتجاوزُ الحسابات الصهيونية الأمريكية الضيقة.
فاليمنيون لا يتراجعون، ولا يساومون؛ بل يمضون حتى النهاية؛ فإما شروطُ غزة ومقاومتها تتحقّق، أَو شرايين ُالعدوّ تُقطَع نزفًا واحدةً تلو الأُخرى، حتى الانهيارِ والاجتثاث.
التعليقات مغلقة.