saadahnews

سورة المائدةالدرس الثالث والعشرون

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

بعد أن جاء النهي المؤكد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: أن لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وبعد أن أوضح خسارة من يسارعون فيهم، والسبب الذي يدفعهم إلى المسارعة أنه نتيجة مرض في قلوبهم، وبين ما يعطي أملاً للمؤمنين: أن الله سبحانه وتعالى سيستبدل بمن ارتدوا عن دينه، سيستبدل بهم غيرهم، من وصفهم بأوصاف عظيمة، هذه الأوصاف العظيمة ليست بمعزل عن هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ}(المائدة: من الآية 55) بالإضافة إلى كونها توجيهاً للمؤمنين بشكل عام أنه لا يجوز أن تتخذوا اليهود والنصارى أولياء {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} الذي يجب أن تتولوه فقط {اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة: من الآية 55).

وليكم الذي تعتصمون به، وتلجئون إليه، وتستنصرون به الله سبحانه وتعالى، هو من يجب أن تتولوه، وتكونوا معه وتتبعوه، وتطيعوه، {وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} الآية هنا تبين بأن ولاية الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض التي تتجلى على يد نبي من أنبيائه، أو ولي من أوليائه إنما هي امتداد لولايته سبحانه وتعالى، امتداد لولايته، امتداد لسلطانه، لهذا جاءت بعبارة واحدة {وَلِيُّكُمُ} ولم تأت بعبارة الجمع فيقول: أولياؤكم مثلاً، {وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}؛ لأنها ولاية واحدة، ولاية رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هي امتداد لولاية الله، ولاية الإمام علي هي امتداد لولاية رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، باعتبار الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، ومن بعده الإمام علي امتداد لسلطان الله هنا في الأرض.

هنا يعطينا فهماً بالنسبة للولاية في الإسلام، عندما نقول: السلطة في الإسلام كيف هي؟ عندما تعود إلى القرآن الكريم ترى في سور كثيرة، في آيات كثيرة، وعندما تعود أيضاً إلى واقع الحياة، تتأمل في السماوات والأرض وما بينهما من خلق الله تجد أن ولاية الله سبحانه وتعالى هي ولاية رحمة، ولاية رعاية، ولاية تربية، ليست مجرد سلطة هكذا، سلطة قاسية، أوامر ونواهي فقط، ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة. عندما تأتي إلى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وتتعرف عليه من خلال القرآن الكريم، ومن خلال ما نعلمه من سيرته (صلوات الله عليه وعلى آله) تجد أيضا أنه كان يجسد هذه الولاية {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128). عندما تأتي إلى ولاية الإمام علي نفس الشيء.

إذاً فهذا هو مفهوم الولاية في الإسلام، وهذه هي مهام الولاية في الإسلام، ليست فقط سلطة تنفيذية، سلطة أوامر ونواهي جافة، وتجبر وتسلط وقهر، وأشياء من هذه.. أبداً؛ لأنه فعلاً يحصل تساؤلات كثيرة حول النظام السياسي في الإسلام، أو حول السلطة السياسية في الإسلام، وأشياء من هذه، هو أساساً السؤال من أصله غير صحيح؛ لأنه في واقع الناس ليس هناك فصل ما بين سياسة، واقتصاد، واجتماع، وثقافة، وتربية، ورعاية، وأشياء من هذه، ليس هناك فصل فيما بينها. من أين جاء ترسيخ السلطة وكأنها فقط ما نسميها: سلطة سياسية فقط، سلطة تنفيذية لأوامر ونواهي وتسلط فقط؟!.

إنما جاءت عندما برز في الحياة هذه النوعية فعلاً، وعندما كان من يتزعمون البشر في مختلف مراحل التاريخ من النوعية التي لا تمتلك أي رؤية أخرى، ولا قدرة أخرى فيما يتعلق بالرعاية، والتربية، والتثقيف وغيرها، لا يمتلكون شيئاً، لا يمتلك إلا القهر والسلطة، أمر ونهي وسجن وقتل ونفي ومصادرة، وأشياء من هذه، هذا عمل يستطيع أي واحد يعمله، أليس أي واحد يستطيع أن يعمله؟ لا يحتاج حتى إلى حنكة سياسية – كما يقولون – معاوية استطاع أن يحكم الأمة عشرين سنة، ومعاوية لم يكن يمثل شيئاً؛ لأنك بالطريقة هذه تستطيع أن تحكم العالم، هذا بوش نفسه أليس متجهاً إلى أن يحكم العالم؟ وهو عندما تتأمل منطقه، ملامحه، حركاته تجد أنه إنسان غير طبيعي، وغير متزن، لكن ما أيسر السلطة، وما أسهلها عندما تكون على هذا النحو: أوامر ونواهي، الذي يقول لك: تمام، لا بأس، تعطيه كيفما أردت دون أن تلحظ حقوق الآخرين، والذي يرفض، سجن وقتل ونفي، وأشياء من هذه.

إذاً الولاية في الإسلام، السلطة في الإسلام هي أرقى بكثير مما عليه واقع البشر، أرقى بكثير في مهام من يلي أمر الأمة. تجد أنه عندما تتأمل ولاية الله سبحانه وتعالى لشؤون عباده فولاية من يلي أمر الأمة هي امتداد لولاية الله، يجب أن يكون عنده رحمة، يجب أن يكون عارفاً كيف يربي الأمة، يجب أن يكون عارفاً كيف يبني الأمة، كيف يطور حياتها، كيف ينمي اقتصادها، كيف يزكي أنفسها، كيف يواجه أعداءها، أشياء واسعة جداً، جداً.

تجد هذه ألم تكن هي أبرز الأشياء بالنسبة للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) والإمام علي؟ ما الذي كان بارزاً بالنسبة لشخصيتهم كأولياء لأمر الأمة؟ هل كان البارز موضوع التسلط والقهر، أو هذا الجانب الآخر، جانب الرعاية والتعليم والتزكية؟ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}(البقرة من الآية: 129) جانب تربيتهم؛ لينشئوا أمة على مستوى عالي، هذه المهمة هي التي كانت بارزة في شخصية الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في ممارساته وسلوكه مع الناس الذين هو أولى بهم من أنفسهم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(الأحزاب: من الآية: 6) ولهذا قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}(التوبة من الآية: 128) يعز عليه ويؤلمه أي مشقة تلحقكم، هذه صفة هامة جداً {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي مشقة تلحقكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} بكل ما تعنيه الكلمة، حريص عليكم بأن تنشؤوا أمة مستقيمة، بأن تكونوا أمة قوية، بأن تنشؤوا رجالاً حكماء، أصحاب نفوس زاكية، أصحاب نفوس عالية، حريص ألا يلحقكم أي ضر مهما كان {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

إذاً عندما ترجع تتصفح القرآن الكريم بالنسبة لله سبحانه وتعالى أليس هذا ظاهراً، وليس فقط نقول: ملموس، ظاهر من خلال القرآن الكريم مظاهر رحمته، رأفته، رعايته، أنه فعلاً بالنسبة لعباده هم محط عناية كبيرة جداً تساوي {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} ما نمتلك عبارة بالنسبة لله نقول: هكذا، لكن مثلما قرأنا في الآية السابقة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ}(المائدة من الآية: 33) وكثير من الآيات غيرها، هذه الجوانب الهامة جداً هي الجوانب التي يحتاج إليها الناس، وهذه هي الجوانب التي لا يمكن أطرف الناس أن يعملها، أما الجانب الآخر فبإمكان أي شخص يفوز بانتخابات، أو بانقلاب عسكري، أو عن طريق وراثة، أو بأي طريقة كان فيصل إلى الحكم، ويمارس الحكم، ويجلس ولو أربعين سنة، ولكن هل تجد له أثراً في تربية الأمة، رعايتها، تنشئتها، بناءها بناءً صحيحاً، لا تجد إلا العكس.

إذاً فقبل أن نتساءل عن ما هو النظام السياسي في الإسلام كنظام هيكلية الدولة، اسأل عن مهام الدولة في الإسلام، مهام السلطة في الإسلام ما هي؟ هي هذه، وليس فقط: هل هو شخص واحد، أو مؤسسات؟ هل عن طريق انتخابات، أو عن طريق اختيار، أو عن طريق شورى أو.. أو.. إلى آخره، في المقدمة ما هي مهام الدولة في الإسلام؟.

الإمام علي (صلوات الله عليه) هل كان إنساناً ضعيفاً نفسياً؟ لم يكن ضعيفاً نفسياً على الإطلاق، كان قوياً، كان بإمكانه أن يخضع أهل العراق، ويخضع الجزيرة هذه، ويخضع كل البلاد الإسلامية، ويدير الأمور بشكل أقسى مما عمل معاوية، أليس هو يستطيع أن يعمل هذه؟ لكن اقرأ ما الذي ترك معاوية، وما الذي ترك الإمام علي، عندما تقرأ في نهج البلاغة تجد كيف ترك حتى فيما يتعلق بالوعي السياسي للناس، ترك تراثاً هاماً جداً، مثل عهده إلى مالك الأشتر، تجد نصوص خطبه وتوجيهاته – مع أنه قد يكون فقط قليل، ما وصل إلينا في نهج البلاغة قليل – كيف هو فعلاً عمل الإنسان الذي يفهم السلطة في الإسلام ما هي، يفهم الدين من حيث هو بالنسبة للإنسان ما هو دوره، أن الله كرم الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء من الآية: 70) فيجب أن يكون الحكم للناس بالشكل الذي يسمو بهم، يكون متناسباً مع تكريم الله لهم، وليس بالشكل الذي يحطهم، ويقهرهم، ويذل نفسياتهم؛ ولهذا أصبح جانب كبير من المسؤولية على نفس الأمة، على نفس الناس؛ لأن القضية هنا إضافة إلى خبرة إدارية، وخبرة تربوية، وتوجيهية بالنسبة لمن يلي أمرها لازم بالنسبة لها هي أن يكون لديها وعي، هو أن تعرف بأن من الأفضل لك أن تعيش في سلطة فيها مثل الإمام علي (صلوات الله عليه) لا تخاف أنه يمكن أن يظلمك، لا تخاف أنه بمجرد وشاية معينة إليه يمكن أن يسجنك، أو يقتلك، لا تخاف أن جواسيسه بعدك أينما ذهبت، لا تلمس أي خوف في نفسك، ولا أي شعور بقهر وإذلال ممن يحكمك، أليس هذا الذي يتناسب مع كرامة الإنسان؟.

يجب أن تكون فاهماً أن على الإنسان نفسه أن يكون واعياً وفاهماً؛ لأنه فعلاً المسألة، أو تقول نصف الموضوع هو يتوقف على الناس؛ ولهذا كان الإمام علي والرسول من قبله (صلوات الله عليه وعلى آله) يوجهون الناس يوجهونهم على أساس يفهمون هم، ينطلقون هم، يتحركون هم، لا يرضون لأنفسهم أن يكونوا من النوعية التي لا تتحرك إلا إذا سيقت بالعصا، لا تتأدب إلا إذا ضربت بالأسواط.

الإمام علي تعب جداً في هذا الموضوع، وكان باستطاعته أن يمارس السلطة، واحد من جماعته وليس هو، واحد من جماعته باستطاعته أن يمارس السلطة بأرقى مما عمل معاوية، لكن معاوية ما الذي ترك؟ ما الذي سمعنا عن سلطته عن إدارته لشؤون الأمة؟ وماذا عمل؟ سمعنا بقهر، بإذلال، بتدمير، بسفك للدماء، بتضليل رهيب للأمة، تحريف لقيم الدين، إذلال للأمة، ومن أخطر الأشياء على الأمة أن تذل بواسطة من يحكمها، لكن الأمة إذا لم تكن واعية، إذا لم تكن واعية فعلاً، تكون هي التي تعبر عن نفسها بأنها ليست جديرة إلا بمن يسوقها بالعصا، ويذلها ويقهرها.

الإمام علي أوكل المسألة إلى الواقع بعد أن فهمهم، وبين لهم، ووضح لهم، ووجههم، وحذرهم من العواقب، ما قبلوا، ولم يرضوا أن يتحركوا، ويتفاعلوا بالشكل المطلوب، ذاقوا العاقبة من بعد، ألم يذوقوا الأمرين عندما تسلط عليهم بنوا أمية من بعد؟ معاوية ومن بعده يزيد ومن بعده بنوا أمية واحد بعد واحد. الأمة هذه مسؤوليتها كبيرة، الهدى الذي قدم إليها مهمته بالنسبة لبناء النفسية مهمة عالية جداً، يصل بالنفس إلى مستوى عالي جداً، مهمتها في حركة هذا الدين لإيصاله إلى الأمم الأخرى، تحتاج إلى أن تربى على هذا النوع، تحمل نفوساً كبيرة، نفوساً كريمة، نفوساً عزيزة، نفوساً أبية، لا يكون قد أذلها، وحطها القهر، قهر التسلط.

لاحظ الآن عندما حكم العرب الكثير من حكامهم، الكثير منهم بسياسة القهر والتسلط، أنت هنا ضربت الأمة، لم تعد هذه الأمة صالحة لأن تدافع عن نفسها، ألفت القهر، ألفت الإذلال، ضعفت نفوسها، انهارت معنوياتها؛ لهذا يكون هناك أثر سيئ جداً، جداً للتسلط على الناس؛ لأنه يؤدي إلى قهر أنفسهم فيضعفون في مواجهة العدو، ويضعفون عن حمل الرسالة العظيمة هذه التي أوكلت إليهم.

هذه القضية من أهم الأشياء، حتى نعرف هل للإسلام رؤية سياسية – كما يقولون – هل الإسلام فيه ولاية أمر، أو ليس فيه شيء؟ كيف نظرة الإسلام إلى هذه القضايا التي يتكالب عليها الناس، ويتسابق عليها الانتهازيون؟ لا يمكن أن تفهم القضية إلا أن تبدأ من عند الله سبحانه وتعالى فتعرف وهو يقول عن نفسه بأنه الملك، ألم يقل بأنه ملك؟ انظر إلى كيف ملكه هو، كيف ملكه، هل هو ملك تسلط وقهر وجبروت، أو ملك رعاية وتربية؟ وفي الأخير – فعلاً – لمن لا ينفع معهم أي شيء يضربهم، أليس هذا الذي نلمسه في القرآن بالنسبة لله سبحانه وتعالى؟.

انظر إلى ولاية الله سبحانه وتعالى لأمر عباده، واعرف أن ولايته هنا عن طريق رسوله، أو الذين آمنوا، إنما هي امتداد لولايته، ويجب إذا لم تكن على هذا النحو، فليست امتداداً لولايته، إذا لم يكن من يلي أمر الأمة يتعامل مع الناس بالشكل الذي يلمسه من خلال مظاهر ملك الله، مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى على عباده، معنى هذا ماذا؟ أنه لا يعتبر امتداداً لولاية الله أبداً، هو مفصول عن الله، وسيترك آثاراً سيئة في نفوس الناس، وفي واقع الحياة. حصل الخطأ الكبير حتى عندنا نحن الزيدية، عند الزيود، ما بالك بالآخرين الذين جعلوها جائزة، من قفز على كتف، وعلى كاهل هذه الأمة تجب طاعته، وإن قصم ظهرها، وإن لعب بأموالها، وإن داسها، تجب طاعته! أيضاً قدموا عندهم الفكرة هذه: ما هي ولاية الأمر؟ قالوا في الأخير هي: [رئاسة عامة] يجيش جيوشاً، ويعين ولاة، ويعزل ولاة، ويقيم حدوداً، ويستلم زكاة، وانتهى الموضوع.

القضية أوسع من هذا بكثير، وإذا لم نفهم المسألة على هذا النحو، معنى هذا أننا جاهلون فعلاً بالله، وجاهلون بمثل هذه الآية نفسها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} وليكم، أليست بعبارة مفردة {الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أي بالتأكيد أن ولاية رسوله وولاية الذين آمنوا – الذي هو الإمام علي ومن كان كمثل الإمام علي – تعتبر امتداداً لولاية الله، هنا ستعرف أهمية ولاية الأمر في الإسلام بالنسبة للأمة، وأهميتها بالنسبة للدين، وأهميتها بالنسبة لإقامة الدين، ليست القضية هل يجوز أن يكون من هؤلاء، أو هل يجوز أن يكون بشورى، أو يكون بانتخابات، أو أن يقفز بانقلاب عسكري، أو بأي طريقة كانت، ليست القضية حول هذا، هل يكون واحداً، أو عشرة، أو عشرين أو.. إن الإسلام لديه رؤية – إذا صحت العبارة – أن يحكم الأمة بكلها، البشر بكلهم، قدم رؤية أرقى رؤية لحكم العالم بكله فضلاً عن إقليم من الأقاليم.

عندما يقول البعض: أبو بكر ماذا فيه من عيب؟ أليس البعض يقول هكذا؟ أبو بكر هو هذا سير جيشاً إلى الشام، وقاتلوا كذا، وأشياء من هذه، هذه كلها تكون نتيجة قصور في فهم ولاية الأمر في الإسلام ما هي، بالنسبة للأمة، أو بالنسبة للدين بكله ما هي، تراها قضية واسعة جداً، جداً؟ لا يستطيع مثل أبي بكر، ولا مثل عمر، ولا مثل عثمان أن ينجح فيها على الإطلاق، لا يستطيع حتى وإن حاول أن يُخلِص، ليست قضية تعود إلى أنه مخلص أو غير مخلص، وإن أخلص، وقد أوضح الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) للناس وضرب مثلاً يبين للناس بأن هؤلاء غير جديرين بقيادة الأمة عندما ولاهم في خيبر، أعطى الراية في يوم من الأيام أبا بكر رجع منهزماً أمام اليهود، أعطى الراية عمر فرجع منهزماً أيضاً من جديد أمام اليهود.

ثم تعود إلى هذا الدين وإذا هو يعطي هذه الأمة مهمة عالمية وكبيرة جداً، جداً حركة جهاد في العالم، إيصال هذا الدين إلى كل أنحاء العالم، أليس هذا بالتأكيد يتطلب قيادة عالية؟ فالذي انهزم أمام اليهود، وليس قبيلة عربية، ربما لو كانت قبيلة عربية الأمر أهون، لأن القبل العربية أقوياء، لكن اليهود هم أذلة، انهزم أمامهم، هذا يعطي مؤشراً واضحاً بأن مثل هذا ليس جديراً بقيادة أمة مجاهدة، وتربى على أساس أن تكون مجاهدة، وتحمل هذه الرسالة إلى العالم كله. نحن نعتبر بأنه تراجع الدين، وتراجعت الأمة تراجعاً كبيراً جداً، جداً من أيام أبي بكر إلى الآن.

لكن إذا أنت فاهم فقط أن ولاية الأمر فقط تعني: واحد يرتكز يجيش جيوشاً، أيّ واحد يستطيع يجيش جيوشاً، ويعين محافظين، ويزيل محافظين، أو أمراء، أو ولاة، على حسب منطق السلطة في أي زمن كان، أليس باستطاعة أي واحد، وباستطاعة أي واحد يقسم الأموال لهذا، وهذا، وهذا، باستطاعة أي واحد أنه يحاول يسترضي كبار العشائر، يعطيهم أموالاً كبيرة، والباقين في ستين داهية، أليس باستطاعة أي واحد يعمل هذه؟ أليست هذه مظاهر تتنافى مع ولاية الله؟.

إذاً فبالتأكيد أنه ليست قضية الولاية قضية فقط نختلف حول: هل واحد أو اثنين أو أن يكون واحد فقط، أو يكون هناك مؤسسات، أو تكون الطريقة هكذا، أو تكون الطريقة هكذا، حول ما يسمى نظام، أو هيكلية، حول المهام ما هي أولاً.

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة: 55) في كثير من المواضع يأتي بالكلام عن الصلاة والزكاة وكأنهما نموذج للمجالين الرئيسين في العبادة – مثلما يقولون – عبادة روحية، وعبادة بدنية مالية. هذه الآية المشهور فيها أنها نزلت في الإمام علي (صلوات الله عليه) عندما تصدق بخاتمه وهو راكع، ومثلما قلنا في درس سابق: أن هذا فعلاً يعطي مؤشراً هاماً جداً، الإمام علي عندما دخل فقير يسأل ولم يعطه أحد أشر إليه بخاتمه ليأخذه.

إذاً قضية الخاتم أليست تبدو قضية بسيطة؟ لكن ماذا تدل عليه؟ تدل على نفسية ثانية، نفسية تهتم بالناس، أليس هذا مؤشراً كبيراً؟ نفسية رحيمة، ونفسية تهتم بالناس، وليس يهتم كيف يأخذ حق الناس، يهتم بالناس، فأعطاه الخاتم، معناه: أن الأمة إذا لم تكن على هذا النحو: تتولى الله ورسوله وتتولى الذين آمنوا ستنهار، وفعلاً قد تصبح فيما بين واحد من اثنين: إما أن تكون متولية لليهود والنصارى، أو متولية للذين آمنوا، فعلاً أن المسألة تصل إلى هذا أعني: لا تلحظ في كثير مما يقدم في القرآن في أجواء تبدو وكأنها أجواء مقارنة إلا ومعنى هذا أنه إذا ما حصل تقصير هنا سيكون الطرف الآخر هو البديل، إذا حصل تقصير في تولينا لله ورسوله والذين آمنوا سيكون اليهود والنصارى هم البديل، أليس هذا واقع الآن؟ واقع.

هذه الآية هي نزلت في الإمام علي فعلاً، وقلنا في درس سابق: بأن الآية هي نفسها تشهد، وتدل على أنها نزلت في قضية خاصة، بداية نزولها قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} لا يمكن أن نفسر راكعون بمعنى: مصلون، إذ كيف يمكن يقيمون الصلاة وهم مصلون، ويؤتون الزكاة وهم مصلون، هذا لا يصح في التعبير العادي فضلاً عن القرآن الذي أحكمت آياته، ولم يأت فيما نعرف كلمة: راكعون بمعنى: خاضعون، يأتي بكلمة: ساجد، ساجدين، أو قانتين، هذا الذي نعرفه من خلال القرآن، فالآية نفسها هي فعلاً تدل على أنها نزلت في قضية، في واقعة خاصة، لشخص خاص، في بداية نزولها، وما تزال، ولنعرف مثلاً لماذا أنه تأتي مثل هذه الآية في سياق الحديث عن بني إسرائيل، ويظهر من خلال الواقع: أن الأمة بحاجة إلى تولي الله ورسوله، وتولي المؤمنين في المقدمة الإمام علي من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).

أن هذه القضية لا بد منها حتى تهتدي بالقرآن، وحتى تكون بعيدة جداً عن أي محاولة قد تكون بها قريبة من تولي اليهود والنصارى، وحتى تكون بشكل أخير على مستوى عالي، تعتبر حزب الله، وحزب الله كما قال: {هُمُ الْغَالِبُونَ} كما قال بعد في آخر الآية أنهم هم الغالبون؛ لأن الإمام علياً، وهذا هو منطق الإمام الهادي هو يعتقد أن ولاية الإمام علي هي قضية واجبة على المسلمين، قد تكون القضية مختصة بالإمام علي أساساً، قد يكون بعده أئمة متأخرين قد لا تكون تعرفهم، قد لا تكون مسؤولاً أمام الله بأنك لماذا لم تعرفهم، وتتولاهم بالتحديد، الإنسان يتولى المؤمنين بشكل عام، بشكل عام يتولى أولياء الله، ويدين الله بولايته لأوليائه، وحبه لأوليائه، لكن الإمام علياً هنا يشكل ضمانة، ويشكل نموذجاً يقدم، قدم كنموذج لكيف يجب أن تكون ولاية الأمة من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) إلى نهاية التاريخ.

الإمام علي نفسه قدم لهذه الأمة نموذجاً فمن يكون متولياً للإمام علي فعلاً سيرى ولاية الأمر في الإسلام أنه يجب أن يكون من يلي أمر الأمة يتحلى بقيم، بروحية شبيهة بما لدى الإمام علي، أليس هذا حاصلاً لدى الشيعة؟ ألم تبق عند الشيعة هذه الرؤية؟ بقيت هذه الرؤية عند الشيعة لماذا؟ لأنهم متولين للإمام علي، من يكون متولياً للإمام علي يكون في نفس الوقت يدين ويعتقد – لأن هذا معنى ولايته – أن هذا الدين لم يترك القضية فراغ، ولم يتناول موضوع ولاية أمر الأمة، أن الإمام علياً هو أول شخص من بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، عينه الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) يعني ماذا؟ أنك تدين بأنه ليس هناك فراغ على الإطلاق، وأن رسول الله مات وترك الأمة هكذا تبحث لها لمن ترى، أو من قفز فوق كاهلها فحياه الله.

تتجلى الصفات المعاكسة الآن، أليست تتجلى في واقع الأمة الآن عند من يلي أمر الأمة هذه؟ وعلى الرغم من أهمية هذا الزمن، وكثرة الإمكانيات فيه، والوسائل التي كانت تؤهلهم لأن يبنوا الأمة، لو كان هناك رحمة، وهناك رعاية، وهناك حرص، وهناك من هذه المواصفات العالية، ألن يكون واقع الأمة بشكل يختلف عما هي عليه الآن؟ إذاً ما الذي فقدت الأمة في من يلوا أمرها الآن على اختلاف بلدانهم؟ ما الذي فقدته؟ ألم تفقد صفات في هؤلاء؟ ألم تفقد صفات هي مرتبطة بالأمة هذه، مرتبطة بهذا الدين؟ هذا الذي فقدتها، لما كانوا فاقدين لها فقدتها الأمة، أصبحت الأمة في وضعية سيئة جداً، أليس هذا الذي هو معروف الآن؟.

كما قلنا سابقاً بالنسبة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ…}(المائدة: 54) إلى آخر الآية، ألم يأت بصفات في هؤلاء؟ ثم يأتي بعدها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ}(المائدة: 55) بالتأكيد يجب أن يكون هؤلاء متولين لله ورسوله وللذين آمنوا والإمام علي في مقدمة الذين آمنوا بعد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) قضية أساسية، وإلا فلن يهتدوا بالقرآن، ولن يحملوا تلك المقومات، والصفات الهامة. ولاحظوا أن القضايا كلها عملية في الإسلام، والولاية ليست فقط أن تحب له كما تحب لنفسك، وتكره له كما تكره لها، يجب على الأمة أن تتولى، المؤمنون يجب أن يتولوا الله ورسوله والذين آمنوا؛ لأن مهمتهم كبيرة، والخطورة عليهم كبيرة، متى ما تولوا الله ورسوله والذين آمنوا أصبحوا حزب الله؛ ولهذا قال بعد: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(المائدة: 56) يعني: فهؤلاء سيكونون حزب الله، وحزب الله هو الغالب لا شك في ذلك.

أليس هذا يعني: بأنها قضية ضرورية بالنسبة للناس، بأن يكونوا غالبين في مواجهة هذا العدو الذي يشكل خطورة كبيرة عليهم؟ أليس الناس كلهم بحاجة إلى مثل هذه الآيات؟ هم الآن في حاجة إلى من ينقذهم من هذا العدو ما بالك بأن يغلبوا، كل العرب الآن حكوماتهم وشعوبهم، الأمة هذه كلها، المسلمون بحاجة الآن إلى من ينقذهم من أمريكا، تجلس محلها، وهم يجلسون محلهم! بينما هنا تجد في القرآن الكريم أنه يقدم ما يجعلهم إلى درجة أن يكونوا غالبين لهؤلاء الأعداء. إذاً أليست تعتبر خسارة كبيرة: أن لا يعودوا إلى القرآن الكريم، وأن لا يكونوا على ما يهدي إليه؟! عندما يقول واحد: أنه لماذا لم يذكر علياً؟! أليس البعض يقول هكذا؟ لماذا لم يذكره باسمه؟ القضية ليست بهذا الشكل، القرآن يقدم أسساً، مبادئ، مقاييس، مواصفات هي فوق مجرد اسم، فوق مجرد اسم، عندما يكون هذا الدين هو لهذه الحياة إلى آخر أيام الدنيا فهل معناه لازم أن يقدم قائمة بالأسماء: فلان بن فلان، وفلان بن فلان.. إلى آخره، ثم لا تدري إلا وكل واحد يسمي ابنه بذلك الاسم، ألم يحصل هذا عندما يقولون: أن المهدي سيكون اسمه: محمد بن عبد الله؟ جاء الكثير ليسموا أولادهم محمد بن عبد الله، محمد بن عبد الله على أساس ربما يكون المهدي، وهكذا.

إن القضية الأساسية هي: أن يبين كيف يجب أن يكون من يلي أمر الأمة، كيف يجب أن يكون، ثم إن المسألة هي أعلى من مجرد أن يكون اسمه فلان، أو فلان، هذه قضية مرتبطة بالله هو الذي يختار ويصطفي ويؤهل هو، لا يعطي قائمة معينة من الأسماء، هنا القضية متميزة في القرآن أدق من الأسماء فعلاً، القضية وفق رؤية القرآن متميزة أدق من الاسم، أما الاسم فممكن يطلعون لك عشرات الأسماء، وكل واحد يدعي بأنه هو فلان يقدم لك قائمة: فلان بن فلان، وفلان بن فلان، ألم يحصل ادعاءات للمهدوية على طول التاريخ هذا؟ من جاء واسمه محمد بن عبد الله قال: المهدي، وهكذا، وتكون الأمة منتظرة للاسم، منتظرين الاسم، أن يكون اسمه كذا، فيكون هذا متحرك بالاسم هذا، وذلك من هناك متحرك هو بالاسم هذا، قال ذلك: أنه المهدي، وذلك قال: لا بل هو، قال: أنا اسمي: محمد بن عبد الله، قال ذلك: وأنا اسمي: محمد بن عبد الله، أو أحمد عبد الله أو.. أسماء، أحمد، أو محمد كما يقولون!!.

لا، المسألة قدمت بأدق من التسمية، مبدأ التكامل، وأن القضية مرتبطة بأن تعرف الله في المقدمة، تعرفه هو سبحانه وتعالى، ثم تعرف كيف ولايته التي هي عن طريق أحد ممن يصطفيهم من أنبيائه، ورسله، أو من أوليائه، كيف ستكون ولايتهم، وكيف يجب أن تكون ولايتهم، أنها امتداد لولايته، فتجد في القرآن تشخيص، تشخيص بأدق من الاسم، أدق من الاسم، هذه قضية تقدم للأمة كتثقيف، تثقف بالرؤية القرآنية، وستميز المسألة بأدق من التسمية، ولهذا نحن نقول: غير صحيح عندما يقول الإثنا عشرية: واحد، فلان ابن فلان، وواحد، فلان ابن فلان، قدموهم مسلسل، نجح عليهم المسلسل في نصف القرن الثالث إلى مائتين وخمسة وخمسين، في الأخير [يحنبوا] إلى الآن على مدى أكثر من ألف ومائة سنة.

أن يذكر الاسم مثلاً أليس الناس سيكونون بعد الاسم، منتظرين للاسم، وسيحصل تزييف عن طريق الأسماء، لكن هنا في القرآن قدمت المسألة فيما يتعلق بولاية الأمر، وفي منهم الذين يمكن أن يخلفوا رسول الله في أمته، قدمت بالشكل الذي لا يحصل التباس فيها على الإطلاق، ولا يحصل اختلاف؛ ولهذا كان الإمام الهادي يقول: ((لن يشتبه اثنان)) نهائياً عندما قالوا: [فإن كان ذلك عالم والثاني عالم وهذا كذا] في الأخير قال: ((هذه مجاراة وإلا لن يلتبس اثنان في المسألة)) لكن يكون تميزاً واضحاً، اختياراً إلهياً، اصطفاءً إلهياً، وليست مسألة تأهيلية، كل واحد من عنده، بالاسم، أو بالتأهيل، أو بشهادة جامعية، أو بشهادة أزهر، وأشياء من هذه، فيكونون متنافسين على من الأعلم، من الأورع، من الأزهد، من الأكبر من الأصغر وهكذا.

لاحظ كيف ضرب مثلاً لبني إسرائيل أنفسهم، ومثل للأمة كلها، أليس عيسى بن مريم بعدما ولدته أمه ذهبت به إلى قومها طفلاً بين يديها، طفلاً، والكنائس مليئة بالحاخامات حقهم، وربما كل واحد منهم عنده أنه لو ينزل وحي من السماء لما نزل إلا عليه، والثاني مثله، وهكذا، يأتي طفل تقدمه أمه: أن هذا هو الذي سيكون رسولاً، سيكون رسولاً، وينتظرون حتى يكلم الناس كهلاً، كلمهم في المهد بقي طفلاً إلى أن أصبح شاباً، ثم أوحي إليه بتبليغ الرسالة، والنهوض بالرسالة.

ومع هذا وتطبيقاً لمثل هذه الآية التي ستأتي بعد،     ألم يعلن بالاسم، وهل أفادهم الاسم بعد أن أعلنه يوم الغدير ((فهذا علي مولاه)) ألم يقل هكذا (صلوات الله عليه وعلى آله)؟: ((فمن كنت مولاه فهذا..)) بالإشارة، أليس تعييناً وهو ممسك له بيده ((علي)) ألم يذكره باسمه ((مولاه))، وفي الأخير يطلعوا بدلاً عنه واحد اسمه: أبو بكر! ألم يطلعوا شخصاً آخر باسم آخر؟ لأنهم لو فهموا المسألة بالشكل المطلوب، لو كانوا يتفهمون فعلاً، لو كانوا يتفهمون، ولذلك نقول: التفهم زيادة على مجرد قضية الإيمان، ويجب أن نفهم هذه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ}(النساء من الآية: 136) أليس هذا إيمان داخل إيمان؟ لو كانوا متفهمين بالشكل المطلوب للمسألة بكلها، ولو عرفوا مسؤوليتهم في الالتزام أمام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لما قبلوا غير علي على الإطلاق؛ لأن مواصفاته واضحة، كماله معروف، وبالتعيين أيضاً. فعندما يقول لك: لماذا لم يذكره هنا في القرآن، ذكره بأدق من الاسم، ثم انظر أنت هل نفع الاسم معهم؟! إذا لم ينفع الاسم مع أولئك الذين كانوا تلاميذ رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هل سينفع الاسم من بعدهم؟.

ولأن القضية هي بيد الله – كما قلنا أكثر من مرة – أن موضوع إقامة دين الله، موضوع قيادة الأمة، وتربيتها لتكون على مستوى عالي في النهوض بمسؤوليتها، أنها قضية تختص بالله، وأنها القضية التي لا يمكن للناس أن يختلفوا فيها إذا فهموها؛ لأن بقاءها بيد الله يشكل ضمانة للأمة، تبعدهم عن التزييف، تبعدهم عن الادعاءات الكثيرة، تبعدهم عن التضليل، تبعدهم عن القهر والتسلط والإذلال، تبقى القضية بيد الله، وهذه هي سنة الله، أنه هو الذي يصطفي ويختار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}(القصص من الآية: 68) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(فاطر من الآية: 32).

ولاحظ هنا في القرآن الكريم، ألم يقدم موضوع ولاية الأمر قضية تتركز بشكل أساسي على موضوع الكتاب، على موضوع الهداية، والتربية، وبناء الأمة، ليست الأشياء التي يسمونها الآن سلطة تنفيذية إلا جوانب قد تكون ربما لا تمثل إلا عشرة في المائة، قد لا تمثل فعلاً باعتبارها تنفيذية، إلا عشرة في المائة من مهام ولاية الأمر، في الإسلام، وأن هذا الجانب هو الجانب الذي سيخفق فيه أي شخص ليس ممن اختاره الله كائناً من كان، سواءً من داخل أهل البيت، أو من خارجهم، سيخفق فيه، الجانب الآخر هذا مهما كان، أما الجانب الثاني: السلطة التنفيذية فيمكن أي واحد [يديول] لكن في الأخير انظر كيف آثار هذه الديولة في تاريخ الأمة من ذلك الزمن إلى الآن، كيف أصبحت الأمة هذه!؟.

مثلما قلنا سابقاً في درس ربما قد يكون من أول الدروس في الموضوع، في [يوم القدس العالمي] اعتقد بأنه فعلاً أن القرآن يقدم القضية بالنسبة للأمة هذه أمام أعدائها، أمام هذا الخطر الكبير الذي يدهمها الآن لا مخرج لها على الإطلاق إلا العودة إلى هذه الآيات، إلى هذا القرآن، التولي لله ورسوله والذين آمنوا، وفي مقدمة المؤمنين علي بن أبي طالب، قضية أساسية…

في الأخير قدمت ولاية الأمر بشكل آخر فلم تعد تعني إلا السلطة التنفيذية، حتى أصبحت المسألة بأنه إذاً لم يعد معناها إلا ما يسمونه احتكار، أو استبداد، أو بأي عبارة، عندما قدمت ولاية الأمر بالشكل الذي يمكن أن يكون من أهل البيت أو من غير أهل البيت، ألم تقدم هكذا؟ وإذا لم يبرز موضوع أن يكون من أهل البيت إلا قضية شكلية، الآخرون رأوا بأنها ليست منطقية هذه، فقط أن يكون من هؤلاء لمجرد السلطة التنفيذية….

{قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة من الآية: 124) وإن كان من ذريته، وإن كان من آل إبراهيم، أو من آل محمد، لا ولاية له على الإطلاق، ولا يصح أن يعهد الله إليه نهائياً؛ لأنها قضية هامة جداً، وواسعة جداً، وليست بالشكل الذي يقول الإمامية: هيمنة على ذرات الكون، ويجب أن يعلم الغيب.. لا، على النحو القرآني، من يخلف رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يجب أن يكون على هذا الأساس على النحو القرآني تماماً.

يأتي بالآية هذه، ألم يأت بها ثم يذكر في نهايتها: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(المائدة: 56) في إطار الحديث عن بني إسرائيل من قبل الآية ومِن بعدها.

إذاً أليس هذا يعتبر من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده؟ لكن هم الذين يظلمون أنفسهم هم، يعني: لا يزال أمام العرب، أمام المسلمين الآن أن يبحثوا كيف يسلمون شر هذا العدو الكبير، أليس لديهم هنا ما يجعلهم غالبين على العدو؟ لهذا قال بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً}(المائدة من الآية: 57) إذا كان لدينكم قيمة لديكم فهؤلاء هم يتخذونه هزواً ولعباً، هل ينبغي أن تتخذوهم أولياء؟! {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ}(المائدة من الآية: 57) لا تتخذوهم أولياء {وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(المائدة من الآية: 57) أليس هذا تحذيراً من جديد بمعنى: أن الإنسان في أي مرحلة من هذه المراحل التي يبدو أمامه شيء كبير، وأمامه أشياء خطيرة.

يجب في البداية أن يلتفت إلى الله أولاً يتق الله، إذا نسي الله نسي نفسه، هذه القضية أساسية: أن الله ربط فيما يتعلق بالناس مصلحتهم وخيرهم، وعزتهم، واستقامتهم به؛ ولهذا قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(الحشر: 19) متى ما نسيت الله نسيت الموقف المناسب مع هذا العدو، ولا تدري إلا وقد أنت تتولاه، وتعمل لصالحه، وعلى أساس أنك تريد أن تسلم شره، ولن تسلم شره؛ ولهذا قال هنا: {وَاتَّقُواْ اللّهَ} يجب أن تكون هذه في المقدمة، أن نلتفت إلى الله سبحانه وتعالى، ونتقيه؛ لأننا إذا لم نتقيه سننسى أنفسنا، إذا لم نتقيه سندخل في مواقف يكون هو من يضربنا ضربة شديدة، لا تعتبر ضربة العدو شيئاً بالنسبة لضربته، أي: فيجب أن نخافه هو، وأن نتقي ما يمكن أن يحصل من جانبه، إذا عدلنا عما وجهنا إليه، لا أن نتقي العدو، ونشغل أنفسنا ونخشى العدو ونحاول نسترضي العدو، وفي الأخير نرى أنه لا ينفع معه أي شيء.

هذه الحالة أعتقد إذا واحد تأمل – وعلى أساس كثير مما يبلغنا من مواقف الناس – أنها قضية منسية، تقوى الله في موضوع الحالة التي الناس فيها الآن في مواجهة الخطر الأمريكي والإسرائيلي، ترى الناس كل واحد في الأخير يحاول هو كيف يتقيه، وينسى أن يتقي الله، لكن عندما تتقي الله سيبين لك ما يشكل وقاية لك من ذلك العدو، إذا نسيت الله ستنسى نفسك، وتدخل في مواقف لا تشكل لك وقاية، لا من الله ولا من العدو.

هم هكذا عندما يقول الله عنهم أنهم يتخذون ديننا هزواً ولعباً يقول: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}(المائدة: 58) فكيف تتولوا هؤلاء، وهم لا قيمة لهذا الدين لديهم، لا قيمة للقيم الفاضلة لديهم، لا قيمة للإنسان عندهم.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}(المائدة: 59) لاحظ على أساس الرؤية الدينية هذه من القضايا كلها، بما فيها تحديد الموقف من هذا العدو الذي يعني في الأخير أنه دعوة لهذا العدو أن يتجه إلى هذا الدين، فهو من الله الذي نعرفه نحن وأنتم، ونؤمن به نحن وأنتم، إذاً فماذا تنقمون علينا؟ ليس هناك شيء تنقموه علينا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إليكم، فهل هذا شيء يدفعكم إلى أن يكون موقفكم منا على هذا النحو السيئ، هل أنتم في مواجهة حالة سيئة من جهتنا أم أن الواقع أنكم أنتم سيئين؟ أنتم السيئون؛ ولهذا قال: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}.

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}(المائدة: 60) من ذلك أنك قد تعود إلى من يتولى هؤلاء لأي اعتبارات، يريد مثلاً أن يحصل على مصالح، أو يأمن شراً معيناً من جانبهم، فيتولاهم، وبالنسبة لأهل الكتاب هم عندما يكونون رافضين معناه: أن القضية متضحة أن ما لدينا معناه: إيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، إذاً فأي شيء يدفعكم إلى أن تنطلقوا إلى أن تعادونا؟ مثلما قال في آيات أخرى يكون هناك دوافع بعضها دوافع مصلحية على طريقة {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً}(التوبة: 9) هذا عندهم قضية ثابتة، فيقول: المثوبة التي هي الشر من كل ما أنتم تريدونه من وراء تولي، أو من وراء إعراض من جانب بني إسرائيل، أو تولي من داخلنا {مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(المائدة من الآية: 60) هذا فيما يتعلق ببني إسرائيل أنه حصل منهم مسخ، لكن المسخ داخل هذه الأمة إن لم يحصل حقيقي – بل هناك روايات أنه قد يحصل – فقد يكون مسخاً معنوياً للنفوس من داخل، تكون نفوس قردة ولو ما زال الغلاف غلاف إنسان.

هذا جاء تهديد لبني إسرائيل، تهديد لبني إسرائيل عندما يكونون دائماً يعرضون، ويصدون، ومعظم ما يحصل لديهم هو ماذا؟ قضايا مصلحية، أحياناً يحصل الصد مثلاً من كبار الحاخامات حقهم، الأحبار والرهبان؛ لأن القضية قد قدمت بشكل وراءها مصالح كثيرة من العامة، هو يتصور بأنه أن يتجه إلى هذا الدين معناه يفقد كل تلك المصالح التي تربط العامة به على أساس ما هم عليه هو وهم، ما هم عليه، تلك الثقافة، وذلك الدين، فيكون عنده أنه سيخسر مصالح كثيرة، ومقاماً معنوياً.

{وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ}(المائدة: 61) بمعنى: أن هذه دعوة لهم إلى الإيمان بشيء هم لا يجهلونه في الواقع، ولا يستطيعون أن يعتبروه باطلاً؛ ولهذا قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وضلوا ضلالاً كبيراً، يتحولون إلى ماذا؟ إلى التضليل، لا يتحولون إلى الإيمان، إلى التضليل، وبهذه الطريقة المخادعة، {وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} يخرجون من عنده كما دخلوا، كفر {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ}.

{وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(المائدة: 62-63) هذه الآية رجعت إلى عمق تاريخهم، تاريخ بني إسرائيل. عندما يكون هناك تضليل، عندما يكون هناك معاصي، والطرف الذي المفروض أن يكون هو من يتحرك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبح المسألة في الأخير سلوكاً ثابتاً عند المجتمع {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} هذه القاعدة الجماهيرية، وهذه النتيجة السيئة عندما كان أحبارهم ورهبانهم ضالين، وكانوا هم أنفسهم يأكلون سحتاً، نفس كبارهم، يأكلون أموال الناس بالباطل، كما قال في آية أخرى، فترى كيف تكون النتيجة أن يكون مراجع الناس مهتدين، أو يكون مراجع الناس ضالين، إذا كان مراجع الناس ضالين في الأخير يتحولون هم إلى ضلال مثلما قال بالنسبة لهؤلاء: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(المائدة: 62).

من الذي أضاعهم؟ الربانيون والأحبار كما قال الله: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(المائدة: 63) هؤلاء الربانيون والأحبار، لبئس ما كانوا يصنعون عندما كانوا لا ينهون الآخرين عن الإثم والعدوان، وأكل السحت. هنا يبين كيف هم في تعاملهم مع دين الله، وتعاملهم مع عباد الله إلى هذه الدرجة التي يتركون الناس يضلون مثلما قال: {يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}.

تجدهم أيضاً جريئين في منطقهم أمام الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}(المائدة من الآية: 64) الآن في سياق الآيات أليست حول تبيين واقعهم، وضلالهم، وخبث نفوسهم، وجرأتهم على كتب الله ورسله وعباده؟ وأيضاً جرأتهم في منطقهم على الله، وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، هذا هو سياق الآية، معناه هنا ماذا؟ أنهم اتهموا الله بالبخل {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} وفي اللغة العربية معناها: التعبير عن البخل، ليس المعنى فلان مربوطة يده إلى عنقه، عندما يقول: فلان يده مغلولة، أو فلان يده ناشف، أو يابس، أو أشياء من هذه، هذه الأشياء التي تستعمل في اللغة العربية بشكل عام، أعني: مجمل العبارة تعني: هكذا، مجمل {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} تعني: هو بخيل، مثلما قالوا في آية أخرى: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}(آل عمران من الآية: 181)، إذاً يبين كما هي سنته في التبيين لهم، أمام كل ادعاءاتهم يبين لهم: لا، لأنه سبحانه وتعالى هو كريم، وسخي، وجواد، بعبارة عامة بمجمل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}.

إذاً سياق الآية واضح هو يتحدث عن بني إسرائيل، يبين كيف موقفهم من كتب الله ورسله ومن عباده، وموضوع الهداية في موقفهم من سبيل الله، وكيف هم دائماً يحاولون أن يصدوا عن سبيله، ويجعلوها عوجاً كما قال في آية أخرى: {تَبْغُونَهَا عِوَجاً}(آل عمران من الآية: 99) ليس المقام الآن مقام أخذ ورد إلى حول كيفية الله، هل هو كذا أو كذا، المقام في هذا الموضوع يعطي موضوعاً آخر. هذا التعبير اللغوي ما يزال عند الناس إلى اليوم، ألسنا نقول: [فلان يده ناشف]؟ لا يريدون أن يده يابس، هل هناك أحد يفهم هذا؟ يعرفون معناها كناية عن البخل، [فلان يده خضراء] ألسنا نقول: يده خضراء؟ يعني: كريم، لا يوجد أحد عندما تقول له: يده خضراء يتبادر إلى ذهن السامع أن معناها: يد خضراء، يد، هذه اليد، مع أن معه يد، أليس الإنسان معه يد؟ لا يتبادر إلى الذهن أن اليد عندما نقول له: يده خضراء أن هذه اليد نفس هذا العضو أخضر، يتبادر إلى ذهنك مجمل العبارة، مجمل العبارة ماذا؟ أنه سخي، عندما يقولون: [فلان لسانه طويل] في سياق كلام حول بذاءة، وأشياء من هذه، هل يتبادر إلى ذهنك أن لسانه إلى فوق صدره، أو يتبادر إلى ذهنه هو نفس السامع عندما تقول: أنت يا فلان لسانك طويل، يتبادر إلى ذهنه أنه بذيء أي: لا يتحكم في منطقه، ينال الناس بلسانه، بمنطقه.

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة من الآية: 64) لاحظ هذه القضية نقولها دائماً: هذا أسلوب قرآني واضح، وتجلى في هذا العصر بالنسبة لنا – لا نعرف قبلنا هل كان يتجلى لهم في عصورهم – تجلى فعلاً أهمية أن يعرف واقع هذا العدو حتى يكون الناس بعيدين عن التولي له، وحتى يكون الناس في نفس الوقت أقوياء عليه، وحتى يكونوا مستبصرين فيعودوا إلى من توليه يعطيهم غلبة على هذا العدو، وأنه دائماً يبين هذا الطرف، أليس هو يبينه دائماً؟ يبين واقعه بأنه في واقع يعتبر ضعيفاً، واقع ضعف لما هو عليه من خبث ولهذا قال: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} أليس هو هنا يبين لنا نقطة ضعف فيهم كبيرة، إذاً فكيف تنطلق إلى توليهم، أو تفكر إلى درجة أنك تنفذ مخططاتهم، وأنت ما زلت تقول: هم فعلاً أعداء الله، وشياطين، ومجرمين، لكن نحن نريد أن نسلم شرهم.

إن نسيان هذه القضية تعتبر من الأشياء الخطيرة جداً عند الناس اليوم، سواءً حكاماً، أو شعوباً، أنهم دائماً يرون الطرف الآخر قوياً، وهم اليهود خباث، هم يعرفون كيف يؤثرون نفسياً، يعرضون طائراتهم، ويعرضون حاملات الطائرات، ويعرضون أساطيلهم البحرية، ويعرضون أشياء من هذه، فينهار عندما يرآهم هكذا، رجع في الأخير عندما رآهم أقوياء، ورآهم عبارة عن جدار من الصلب، أليس هكذا يراهم؟ في الأخير أين يتجه؟ يتجه إلى توليهم، وقبول ما يريدون أن ينفذه وهو ما زال في نفس الوقت يلعنهم.

لاحظ كيف أنها قضية هامة جداً، والقرآن عندما يركز على موضوع فعلاً تجد أنه هام جداً، جداً، تذكره، واستشعاره في نفوس الناس، فدائماً كلما مررنا تقريباً بآيات من أول سورة قرأناها [سورة البقرة] ألسنا نجد هذا الأسلوب يمشي معنا؟ كلما يذكر تولي الكافرين، أو ما قد يدفع الناس إلى توليهم، يبين واقعهم؛ لتعرف أنهم ضعاف، أنهم ليسوا بالشكل الذي تفكر بأن تتولاهم، وهم إلى درجة أن تتولاهم، وتنفذ مخططاتهم، فأول شيء هم جريؤون على الله، أليست هذه قضية.. فعلاً انظر ماذا قال الله بالنسبة لهم: أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وأنه كما لو تكفل بإحباط مؤامراتهم أن ينجحوا بالشكل الذي يريدون {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} ماذا يريد الناس بعد هذا؟ كيف يفكرون في توليهم وقد قال: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} ثم يأتي بعض الناس ليقول: [نحن حاولنا كذا حتى نقي البلد ضربة محتملة] أليس هكذا؟! لا، لا تعتبر أنك وقيت بلادك على الإطلاق وأنت ما زلت تنظر إليهم هذه النظرة أبداً، سيسلطهم الباري عليك حتى لو لم يكن في بالهم سيسلطهم عليك.

هل تعتقد بأن كل شيء يخططون له، وكل شيء يفكرون فيه، أنه سينفذ إلى أن يحقق ما يريدون، هذه {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ} سيجعلهم وقودها، ويجعل آخرين ممن يتولونهم، ويتخاذلون أمامهم أيضاً ممن يضربون فيها، ولن يحققوا الغاية المرادة من وراء إشعال الحروب، وهذه فعلاً تبين أن عندهم الفكرة هذه، وملموس في سياستهم على طول العصر هذا الذي نعرف عنه، محاولة إثارة حروب، إثارة مشاكل، قضية لديهم أساسية، يعتقدون بأنه لا يمكن أن يسيطروا على العالم إلا بهذه الطريقة، يضربون هذا البلد بهذا البلد، ويثيرون الحروب بين هذا البلد، وهذا البلد وهكذا، إضافة إلى أنهم أيضاً يستفيدون اقتصادياً؛ لأن عندهم شركات كبيرة من التي تصنع مختلف الآليات، آليات الحرب سواءً سلاح، أو أشياء تقنية أخرى.

{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} ماذا قال سابقاً عمن يفسدون في الأرض؟ ألم يعتبرهم حرباً لله ورسوله؟ أليس هذا يعني: بأنهم أيضاً في حرب مع الله؟ إذاً قدمهم للناس، وشخصهم أمام الناس بأنهم في أضعف حالة، ولكن عندما تكون أنت من يشخص لك هذا العدو أمامك فلا تثق بالله، ولا تكاد تصدقه – فعلاً ما كأن الناس يصدقون الله نهائياً – ما كأننا نصدقه، وناسين له تماماً، هنا يصبح الناس في الأخير أسوأ منهم فعلاً، يصبحون أسوأ منهم في واقعهم.

{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} هو قال هناك: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً}(المائدة من الآية: 33) اعتبرهم محاربين لله ولرسوله، ثم أن يقول: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أن تفهم ماذا وراءها عندما يقول: لا يحبهم، يعني: لا يحبهم فقط؟ يعمل لضربهم، لكن عندما ترى أن مجمل الموضوع بالنسبة لبني إسرائيل، ما هو السبب الرئيسي الذي أوصلهم إلى هذه الحالة هو أنهم ماذا؟ أنهم لم يؤمنوا بآيات الله، أليست هذه؟ لم يلتزموا بهدى الله، فكانوا على هذا النحو. إذاً الآخرين المسلمون أنفسهم عندما لا يهتدون بهدي الله قد يصلون إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل، أو إلى أسوأ، قد يصلون إلى أسوأ مما وصل إليه بنو إسرائيل أسوأ، قد يصلون إلى أسوأ مما وصل إليه بنو إسرائيل.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}(المائدة: 65) نفس الأسلوب السابق أليس هذا؟ يعني كلما يذكر عنهم أشياء سيئة يكون معنى هذا ماذا؟ إيحاء، أليس معنى هذا أن الموضوع هو خطاب للناس، وأن يفهموا أعني: ليحصل لديهم رؤية، ويحصل لديهم فهم، ويحصل لديهم ثقة بالله، ويحصل لديهم معرفة بالعدو أليس هذا شيء؟.

المسألة أيضاً لما كانت على هذا النحو: خطاب للنفوس، ولتكون النفوس لديها هذه الرؤية، ولديها هذا الموقف، يحاول أيضاً ألا تصل الحالة عندك أنت على أساس أنك متفهم؛ لأن هذا الكلام يقدم لأمة تتفهم، فلا تصبح المسألة عندك عداوة شخصية، ولا تنس أن مهمتك دعوة الآخرين، وأن تكون محباً، وتحرص على أن يهتدي الآخرون كائناً من كان مثلما قلنا سابقاً حول هذه النقطة تكلمنا كثيراً حول أهميتها؛ لأن مما يبين لنا فعلاً أن الخطاب القرآني جاد يعني: أنه يقدم كخطاب لأنفس تفهم، يعطيها رؤية لتنطلق؛ لهذا يقول: لكن لا نريد أن يكون عداؤك لهم عداءً شخصياً، مثلاً قد يكون ما يستوحى من هذه، أن يظل عداؤك لهم عداء من أجل الله، وتلتزم بحركتك في مواجهتهم في هذا السبيل الذي رسمه؛ ولهذا قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}(المائدة: 65). {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}(المائدة من الآية: 66) كذلك أهل القرآن، أليس هذا بالتأكيد، أهل القرآن لو أقاموا القرآن لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. إذاً هذه العبارة ما ذا تعني؟ عبارة تحكي استقراراً أليس معناها استقراراً؟ استقرار للأمة، لا تحصل هذه الحالة إلا في وضعية استقرار، استقرار ماذا؟ استقرار سياسي، واقتصادي، وثقافي معناها؛ لأن عبارة {لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} هي تدل على الأشياء الأساسية، بأن تحصل حالة كهذه أي: سيكون هناك استقرار سياسي، سيكون هناك استقرار اقتصادي، سيكون هناك مجتمع آمن مطمئن. {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة من الآية: 66) منهم أمة، قد تكون محدودة، يحكي في تاريخهم، مقتصدة، يقولون: المقتصد هو فوق الظالم لنفسه، يعني: هو الذي يؤدي الواجبات، وكثير منهم ساء ما يعملون.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة: 67) هذه الآية أين هي؟ أليست في [سورة المائدة] وقد بلغ الرسالات؟ ألم يكن قد بلغ الرسالات بكلها؟ في هذه المرحلة قد عرف التوحيد لله، وعرفت العبادات، وعرف الجهاد، وعرفت تقريباً معظم الأشياء.

هذه الآية نزلت.. يعني: المشهور فيما يتعلق بها أنها نزلت في شأن ولاية الإمام علي في [يوم الغدير] كما روى الإمام الهادي، فلما نزلت لم يستجز أن يتقدم خطوة على موقع نزولها؛ لأن عبارتها هنا عبارة هامة، عبارة قوية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} إن لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك، قضية معينة فكأنك لم تعمل شيئاً، فكأنك لم تبلغ شيئاً، أليس هذا يدل على أنها قضية هامة جداً.

الآية هذه نفسها توضح لنا القضية ما هي؟ القرآن كتاب أحكمت آياته، من نفس الآيات تعرف أنها قضية لن تكون إلا القضية التي عادة الناس يتنافسون فيها، وتطلع إليها نفوس الكثير من الانتهازيين – على ما يسمونهم – قضية ولاية الأمر، بلغ التوحيد، أليس التوحيد لله أكبر قضية؟ بلغه، إذاً بالتأكيد ليست هذه قضية التوحيد هنا {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ألم يقل: والله يعصمك من الناس؟ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بلغ الصلاة، هل ما يزال يحتاج بالنسبة لتبليغ الصلاة إلى عبارات كهذه؟ بلغ الصيام، بلغ الزكاة، الحج، الجهاد، المواريث، الأحكام المتعددة في مختلف القضايا بلغها.

إذاً ما هي القضية المهمة التي يبدو وكأن الرسالة بكلها مرتبطة بها؟ يعني: إذا لم تكن قائمة فإن الرسالة هذه بكلها لا فاعلية لها، تفرغ من مضمونها، أن الرسالة بكلها تفرغ من مضمونها، عندما يقول: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ما هنا فكأنك لم تبلغ؟ أي: معناه أن ما بلغته يفرغ من معناه فكأنه لا معنى له، هذا يعني: أن ولاية أمر الأمة على أساس القرآن الكريم، ولاية أمر الأمة تشكل ضمانة أساسية لمسيرة الدين، واستقامة الدين، استقامة الدين، واستقامة الحياة بكلها، ما هي القضية الخطيرة التي نرى بأن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) بحاجة إلى أن يقال له: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} بلغ التوحيد وفي ظروف قاسية، وكان يحتاج في نفس الوقت إلى حراسة وهو في مكة، وهو أيضاً في المدينة كان يحتاج إلى حراسة، بلغ كل الأشياء، لا نعلم بأن هناك قضية يبدو كان يتخوف من تبليغها، أو قضية قد يرى بأنها حساسة أن تبلغ على نحو حاسم تماماً يعني: يقفل المجالات تماماً أمام كل الموسوسين، والمتطلعين للاستيلاء على السلطة، على الخلافة من بعده.

في هذه المرحلة هل كان هناك كافرون يخشاهم؟ هو لم يخشاهم وهو بينهم في مكة، لم يكن يخشاهم وهو في بداية مرحلة المدينة. نزول [سورة المائدة] كان قد أسلمت الجزيرة هذه، بعد الفتح، أسلمت اليمن، وأسلمت الجزيرة، وخصوصاً المنطقة هذه، أين هم الكافرون الذين قال بأنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هل يمكن من النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يتخوف عن تبليغ شيء خوفاً من الكافرين؟ واضح ماذا قال في مكة عندما عرضت عليه قريش أشياء كثيرة، ألم يقل: ((لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه)) أليس هذا موقفاً قوياً؟ ألم يتآمروا عليه في نفس الوقت؟ تآمروا عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ}(الأنفال من الآية: 30).

إذاً في قضية ولاية الأمر بالتأكيد؛ لأن القضية حساسة، وتجلى من بعد موته (صلوات الله عليه وعلى آله) أليست هي التي تجلى فيها لعبة، حصل أخذ ورد واجتماعات، وخلاف وشقاق، وأشياء من هذه، لم يختلفوا على صلاة، ولا على توحيد، ولا على زكاة، ولا حج، ولا شيء، ألم يكن أول ما اختلفوا عليه هذه القضية؟ قضية الولاية.

أن يقال للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يبلغها على هذا النحو أليس هذا يدل أن القضية بالغة الأهمية، أنها قضية بالغة الأهمية، وأنه إذا لم يبلغ، ويعلن فيكون الناس عارفين جميعاً، يبلِّغ في الحج قبل أن يفترق الناس إلى بلدانهم، فكأنه فرغ هذه الرسالة من محتواها، ولم يبق للدين معناه، ولن يكون لهذا الدين أثره في الحياة إذا لم تبلغ هذه.

قد يكون الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) فعلاً هو يعلم بالقضية، وعمل في البداية أشياء كثيرة، تبين للناس أن الإمام علياً هو الشخص الذي يؤهله من بعده، لم يكن يؤمر عليه أحداً، أحاديث كان يقولها مرة هنا ومرة هنا بالنسبة للإمام علي، لكن بقي الإعلان النهائي بشكل صريح على الأمة، ربما كان يفكر ما هو الأسلوب الأنسب؟ كيف يعمل، وأشياء من هذه، ليس إلى درجة أن يضعف، هو إنسان قوي، وإنسان لا يخشى أحداً إلا الله، لكن أحياناً قد يكون يتخوف في أشياء كيف تكون الطريقة المناسبة التي يمكن أن يبلغ الناس، ويفهموا ولا يكون هناك أي احتمالات أخرى، وهنا يأتي البلاغ من جهة الله سبحانه وتعالى بهذه العبارة الهامة: أن عليك أن تبلغ {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أليس هذا يوحي بأنه كان بالإمكان أن يتعرض لاغتيال، أو لاعتداء فعلاً؟ من أين، من الكافرين أو من أين؟ من داخل! {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الرافضين لما تبلغه، الرافضين لهذه القضية، لن يهتدوا إلى أن يضروك، لن يهتدوا، وفعلاً لم يهتدوا، لم يتوفقوا. إن قلنا أن الكافرين معناها: المشركين، فلا يوجد هناك مشركين في تلك الفترة، لا يوجد أحد، أسلموا كلهم.

فرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) بلغها على أكمل صورة أعني: فهذا يبين لنا، عندما نقول: لازم أن نعرف شخصيته (صلوات الله عليه وعلى آله) كيف كان هو في نفسه؛ لأن ما قدم لنا بالنسبة للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله) هو أنه إنسان صادق، أليست هكذا؟ وأهم شيء بالنسبة للنبوة أنه إنسان صادق، والمعجزة تشهد على أنه إنسان صادق، وصادق.. الخ، أبو ذر صادق، وعلي صادق، وعمار صادق، وناس كثيرون هم صادقون أما نفس الصدق، لكن الشخص الذي يفهم القضية، وكيف يتعامل معها بما يليق بأهميتها، هي القضية الهامة جداً، والواسعة جداً، لاحظ كيف بلغ هذه القضية على أعلى مستوى، ألم يبلغها على أعلى مستوى؟ أوقف الناس جميعاً، ومن تقدموا أرسل إليهم أن يرجعوا، وانتظر للمتأخرين، وفي وقت حرارة الشمس، وقت شمس حتى لا يقولون: لم يروه، هناك ضباب أو نحوه، شمس يقول أحد الرواة: [وإن أحدنا ليضع رداءه تحت قدميه وفوق رأسه] من حرارة الشمس وحرارة الرمضاء، يدل على ماذا؟ قضية هامة سيبلغهم، يوقفهم هنا في هذا المكان الذي ليس فيه ولا شجرة أو حجر، حتى لا يقولون: أنهم لم يروا النبي، فقط سمرات ثلاث التي وقف تحتها [طلح] من هذه أو [قرض] يسمونه، وقف تحتها ورصوا له أقتاب الإبل، أقتاب الإبل أليست تشهد بأنه بمحضر ناس؟ ما هناك أقتاب إبل إلا وهناك ناس كثير، ويطلع من فوق أقتاب الإبل، ويأخذ الإمام علياً معه، ويرفع يده بعد خطبة طويلة ويقول: ((إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه)) أليس هذا أعلى طريقة للتبليغ؛ لأن القضية هامة جداً، لاحظ أن المسألة كان هناك تآمر حولها، ولعبة، فعلى الرغم من حدة لهجة هذه الآية – إذا صحت العبارة – والاهتمام الكبير من جانب الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في تبليغ ولاية الإمام علي تآمروا من جديد، وشاققوا، وفعلاً ركزوا شخصاً آخر، أليس هذا الذي حصل؟ لكن ما الذي بقي أن نفهم نحن، إذا لم نفهم أهمية ولاية الأمر في الإسلام فسنقول في الأخير: [ما هناك مشكلة وأبو بكر كان رجل باهر، وفلان كان باهر والمهم واحد] وأشياء من هذه، وهكذا من جاء باهر، باهر ولا تدري في الأخير إلا وقد أنت تحت [بوش] ثم في الأخير يقولون لك: وبوش باهر، أليست هكذا؟.

أهمية ولاية الأمر في الإسلام أنها تشكل ضمانة لاستقامة الدين، وحيوية الدين، متى ما كان الدين قائماً، والدين حياً، تكون الأمة قائمة وحية، الأمة مربوطة بهذا الدين. إذاً فهي قضية هامة جداً، ليست قضية كيفما كان إذا لم تكن حاصلة، تصبح كثير من تشريعات الدين تستغل استغلالاً سيئاً بما فيها المساجد، بما فيها الصلاة، بما فيها منابر المساجد، بما فيها الحج، بما فيها الزكاة، بما فيها منطق القرآن، تقديم القرآن نفسه، فهي تشكل ضمانة ضرورية جداً جداً، لاستقامة الدين، ليس مثلما يقول الاثنا عشرية، عندما يقولون: إمام ثاني عشر غائب، غائب وحجة على عباد الله وهو غائب، لا يفهمون هم أهمية، وقيمة، وغاية ولاية الأمر في الإسلام، كيف تقول لي: ولي أمر للأمة، وحجة على الأمة وغائب مائة سنة، بعد مائة سنة، طلع لك إلى الآن ألف ومائة سنة، ولاية الأمر تشكل ضمانة، ضمانة دائمة، استقامة للدين، فتصبح الصلاة لها فاعليتها، المساجد لها فاعليتها، منابرها لها فاعليتها، الحج له فاعليته، الزكاة لها فاعليتها، القرآن له حيوته، وهكذا، إذا ما هناك شيء يموت الدين، وتموت الأمة، مثلما هو حاصل الآن وهناك [57] ولي أمر، أليس هناك [57] واحد الآن على هذه الأمة؟ وميتين هم والشعوب هذه، مثلما قال رئيس الوزراء الماليزي، كانت كلمته فعلاً كلمة مؤثرة، كيف مليار وثلاثمائة مليون مسلم، ويزعجهم حفنة من اليهود، يخاطب الذين يزعجون الناس دائماً عن طريق الخطباء، أن يدعوا الناس إلى وجوب طاعة ولي الأمر، لم يجرؤا أن يطلعوا أمر في قمة [منظمة المؤتمر الإسلامي] ولا أمر واحد يكون فيه قسوة، أو فيه ما يكون بالشكل الذي يردع أمريكا وإسرائيل، هل طلعوا أمراً واحداً؟! لهذا نرى الأمة ميتة، السبعة والخمسين، والمليار وثلاثمائة مليون مسلم، بل يقولون: هم أكثر إلى حوالي خمسمائة.

نحن نقول: أننا في مرحلة يجب أن نفهم ديننا، حتى لا نأتي في الأخير ليقول لنا اليهود: [دينكم هذا لا يقدم أي حل وليس عنده أي رؤية، وهذا الدين لا يصلح] فنقول: والله صحيح، [الحقوا بركابنا لتتحضروا، اتركوا هذا الدين لم يعمل لكم شيئاً] نقول: والله صحيح. يجب أن نفهم ديننا؛ لأنه أول واجب علينا أن نفهمه بشكل صحيح من الناحية الإعتقادية أمام الله، أن ننزه الله أنه لم يكن عنده تقصير، وأن تشريعه لائق بجلاله، وعظمته، وملكه، وحكمته، وقدسيته. هذه قضية أساسية: أن تُفهم، حتى نعرف أننا أُتِينا من جهة أننا أعرضنا عن ديننا، فنضرب ونحن نقول مثلما قال يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء من الآية: 87) لا أن نقول في الأخير: الدين هذا هو ضلال، الدين هذا هو الذي ضيعنا، الدين هذا هو الذي لم يقدم لنا أي حل.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}(المائدة من الآية: 68) ورجع الموضوع إلى أهل الكتاب، ألم يرجع الكلام كله إلى أهل الكتاب؟ أهل الكتاب – مثلما نقول – القرآن الكريم يوحي بأن هؤلاء سيكونون هم الأعداء الرئيسين، والتاريخيين لهذه الأمة، وأن هذه الأمة لا ملجأ لها على الإطلاق إلا أن تعود إلى الطريقة هذه التي هداها الله إليها، تعود إلى الله، وتعتصم بحبله.

فعندما يكون الشعوب يسبون زعماءهم، أليس الشعوب الآن يسبون زعماءهم؟ إذاً لأنها قضية خطيرة – يعني: الآن هم يسبون زعماءهم، وأنهم ما عملوا شيئاً، عندما تفتح أي تلفزيون في مقابلة من هذه التي تحصل من القنوات في برامج معينة، حول وضع الأمة هذه، – هنا يجيب القرآن نفسه، يبين أنه لم يأت من جانب الله تقصير، هو يعلم أن الأمة لن يستقيم أمرها، ولن تكون قوية، ولا تستطيع أن تغلب عدوها إلا إذا كانت على هذا النحو، وأنه قد رسم هو الطريق التي يجب أن يكون عليه من يلي أمرها، وأنه أعطى ولاية أمرها أهمية بالغة، أليس هكذا؟ في مقابل ما يقدم، أن الإسلام ترك الأمة على حالها، ويختارون من يريدون، ويعملون كيفما يريدون، ويتشاورون، وينتخبون، وأشياء من هذه، أليس معناه في الأخير وكأنه هذا الدين هو ضيعنا؛ لأنه لم يبين لنا طريقة واضحة. قضية ولاية الأمر التي تعني قيادتهم أعطيت اهتماماً ربما أكثر من أي قضية في عملية تبليغها، بالشكل الذي يوحي بأهميتها لديه. إذاً فأنتم أُتِيتم أنتم من جهة أنفسكم، وليس من جهة الله بتقصير من عنده.

جاء من قبل {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}(المائدة من الآية: 66) أليست هذه واحدة؟ وهذه بعدها {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}(المائدة من الآية: 68) والذين ليسوا على شيء كيف يكونون عليه؟ ضلال، ضلال {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} لستم على شيء إيجابي وحق وصواب {حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} إذاً فهذه الأمة لو أنها أقامت القرآن لأكلت من فوقها ومن تحت أرجلها, وليست شيء، وليست على شيء حتى تقيم القرآن {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(المائدة من الآية: 68).

يأتي المفسرون يمرون بسرعة من على هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(المائدة من الآية: 67) يعني دينه {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} وإن لم تبلغ فكأنك لم تبلغ دينه {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي: يمنعك {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ودخل في الآية الثانية!!.

هنا يقدم القضية هذه لأهميتها، ما هو الذي يجعلهم يمرون من عليها بسرعة؟ أليس لأن أبو بكر فوق جنبه؟ إذا أبو بكر فوق جنبك، وعمر فوق الجنب الثاني، لن تبصر القرآن، حقيقة، تصل عند قضايا هامة جداً مثل آية الولاية السابقة، ومثل هذه الآية.. يعني من ابرز الآيات التي قدمت بشكل هام، وأعطيت أهمية كبيرة هناك: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(المائدة: 56) وهنا تقدم بهذا المعنى الذي سمعناه، بشكل هام جداً، وفي الأخير يمشي حالها؛ لأنه – يقولون – أنها نزلت في علي، وفي شأن ولاية علي، وهو لا يريد أن يكون علي فوق أبو بكر، ولم يعد هناك وساع معه لعلي؛ لأنه قد واحد على الجنب الأيمن، والثاني على الجنب الأيسر، لا يدري أين يضع علياً.

إذاً هم يشغلون أنفسهم بالدفاع عن أشخاص مضوا وضيعوا أنفسهم، وضيعوا الأمة في حاضرها الآن، وضيعوا الدين؛ لأنه سيكون موقفهم ضعيفاً من الناحية الدينية في مقام الحجاج للآخرين، أنت عندما تورط نفسك في قضية باطلة فعلاً يكون موقفك ضعيفاً دائماً، وتسيء إلى دينك، تسيء إلى دينك، ويكون في الأخير ثمن تولي أبي بكر وعمر وعثمان، ثمن توليهم الأمة، والدين، والرَّجال نفسه، ودنياه وآخرته، أليست هذه خسارة؟!.

لا. اترك القرآن على أصله، اترك كل قضية على أصلها، رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) قال: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)) نقول: قال: ((هذا علي مولاه)) لماذا تحاول تقول: لا. أبو بكر؟ لكان رسول الله سيقول ((فهذا أبو بكر مولاه)) ألن يقول هكذا؟.

عندما يقول: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) كان ممكن يقول: وأبو بكر بابها، ونؤمن بهذا، ألم يكن هذا ممكناً؟! عندما يقول: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) ألم يكن من الممكن أن يقول: أبو بكر؟ فلماذا دائماً، دائماً يحاولون أن يقحموا أبا بكر في المكان الذي وضع الله فيه علياً، ووضع فيه رسوله علياً؟!. ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي)) ألم يقل هكذا؟ وهم يروون الأحاديث هم باسم علي، يعني: فيها لفظ علي، علي، علي.. الخ، يقولون: لا، يحاولون أن يغطوا عليها من أجل ألا يلزم أن يكون خيراً من أبي بكر، من أجل ألا يلزم أن يكون أفضل من أبي بكر! هذه لو كانت صحيحة لعملها رسول الله بدون أن تتعب نفسك، لكان سيضع أبا بكر محل علي دائماً في كل واحدة من هذه الروايات التي أنتم تروونها، لكان قال: ((أبو بكر مع الحق والحق مع أبي بكر)) ولما قال: ((علي)) ألم يقل: ((علي مع القرآن والقرآن مع علي)) لكان بالإمكان أن يقول: ((أبو بكر مع القرآن والقرآن مع أبي بكر)) أو يقول: ((عمر مع القرآن والقرآن مع عمر)) هذا موقف محرج فعلاً، ويوقعهم في إحراجات، وأيضاً ربما مع الهجمة الثقافية من قبل اليهود تراهم في مواقف سيئة، وضعيفة فعلاً، يعني: سيصبحون في مواقف ضعيفة وسيئة في مواجهة الشبه التي تأتي من جانب اليهود ضد الإسلام، بكل تفاصيله.

فعندما يقول البعض: بأنه لماذا نذكر الماضين؟ قلنا نحن نذكر الماضين، ونحاول أن ننقد الوضعية بشكل عام، بشكل تقييم؛ لأن هذا واجبنا، ويجب علينا جميعاً بأن نقيم وضعيتنا فننظر ما الذي أدى بالأمة هذه إلى أن تصل إلى ما وصلت إليه، سواءً من داخل أهل البيت، أو من غيرهم، وفعلاً تناولنا هذا، ألم نتناوله من داخل أهل البيت، من الزيدية، والاثنا عشرية، وغيرهم، ومن داخل السنية، أنه قدم ضلال رهيب جداً أوصلنا إلى هذه الحالة. ليس المعنى أننا فقط ننقد أبا بكر وعمر، نحن ننقد آخرين من داخلنا نحن، من داخل أئمة الزيدية، ومن داخل خط أهل البيت لماذا؟ لأنه لا يجوز أن تضع واحد على جنبك الأيمن، والآخر على جنبك الثاني، وواحد فوق رأسك، وواحد على صدرك، ثم تكون كلما تبدي على القرآن تنظر أولاً هل سيتناسب معهم أو تغطي عليه وتمشي.

يجب أن يعطى القرآن أولوية مطلقة، وما هو معلوم عن النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، معلوم عنه قضية الغدير، معلومة عند المسلمين في مراجعهم التاريخية والحديثة، قضية معروفة، معروف أنه قال: ((علي مع الحق والحق مع علي))، ((علي مع القرآن والقرآن مع علي))، ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي)) هذه من القضايا المعلومة عند الأمة، ما هو الذي جعلها لا قيمة لها؟! سواءً آيات قرآنية، أو كلام معلوم من رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)؛ لأنه قد أحرج نفسه بأشخاص، هؤلاء الأشخاص لا يستطيع أن يمشيك يوم القيمة نهائياً.

يجب أن تنزه الله؛ لأن القضية في الأخير هي تنتهي إلى أنك تضحي بقدسية الله وجلاله وعظمته من أجل الحفاظ على أشخاص سواءً أبو بكر وعمر أو غيرهم، من أجل أنك تحاول تحافظ على نزاهتهم، وأنهم كانوا، وكانوا، القضية – مثلما نقول – كل قضية تنتهي إلى الله، عندما تراها بأنها في الأخير تتنافى مع قدسية الله وجلاله وحكمته ورحمته وملكه وربوبيته وألوهيته، معنى هذا أنك تورط نفسك، وتتخذ آخرين أنداداً من دون الله، ولذلك كانت ولاية الإمام علي ضرورية بالنسبة للناس؛ لأنها ماذا؟ تزيح من فوق جنبك آخرين، تخليك تبصر؛ ولأن علياً هو الشخص الذي لا يحرجك مع القرآن، أو مع الرسول، منسجم مع القرآن، ومنسجم مع الرسول، لست بحاجة إلى أن تهبط القرآن، بل أن الآخرين يهبطون الله سبحانه وتعالى حتى يتأقلم مع أبي بكر وعمر وعثمان، أو رسوله حتى يتأقلم مع هؤلاء الثلاثة، أو كتابه، هبطوا الدين بكله من أجل يتأقلم معهم، فيتمكنوا أن يلبسوه، كان ضحية.

ليست المسألة انتهت إلى أنه أبو بكر قفز مكان علي، أي شخص مكان شخص، معناه ماذا؟ هبوط للدين، وحرِّف الدين، وتضليل حتى أوصل الأمة إلى الحالة هذه، ليست المسألة أنه شخص مكان شخص فقط، وأننا فريق علي، وأولئك فريق أبو بكر، وكأننا في نادي رياضي، كل واحد يشجع فريقاً، لا، القضية كانت خطيرة جداً، الإمام علي شخص متكامل لا تحتاج أن تهبط الدين حتى يمكن يلبسه، لكن الآخرين عندما تحاول أن تطلعه إلى هذا المقام لا يطلع لك، هو لا يمكن يطلع لك، لازم أنت تنزل الدين إلى أن يصير على مقاسه، متى ما نزَّلت الدين حتى يكون على مقاسه أصبح غير لائق بالله، ولا برسوله، ولا بكتابه، وتهبط الأمة فعلاً.

لذلك لا يجوز للناس أن تكون عندهم هذه الحالة، أمام أي أشخاص كانوا، سواءً من الصحابة أو من أهل البيت، أو من باقي الأمة كيفما كانوا؛ لأنك تجد في المقدمة إذا قلنا الصحابة لهم فضل؛ لأنهم صحبوا رسول الله، أليست هذه واحدة؟! وأهل البيت لهم فضل؛ لأنهم ذرية رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، ترجع إلى رسول الله الكبير وإذا هو إنسان ملزم بأن يستقيم كما أمر، وأنه لو عصى الله لعذبه، ملزم بأن يتبع ما أوحي إليه، أليس النبي يقدم ما أوحي إليه قضية يجب أن يلتزم بها؟ أو أنه يهبط ما يوحى إليه ليكون على وفق أهوائه؟ لا، يجب أن يكون هو ملتزماً، ومستقيماً، وفعلاً كان ملتزماً بما أوحي إليه، ومستقيماً.

إذاً فمن نقول بأنه فضل لأنه صحبه، أو لأنه من ذريته، أو نرى أنفسنا في تعاملنا معه، هذا الذي فضل لكونه كذا ترى بأننا قد أصبحنا نطلعه فوق القرآن، وفوق الرسول بكله، يعني ماذا؟ يعني: أننا هبطناه، يعني: أن هذا شخص منحط، عندما ترى نفسك أنك بحاجة إلى أن تهبط الدين حتى يتقايس مع فلان، اعرف هذا فلان هو هابط هو، فإن أمكن ترفعه فلا بأس، إذا أمكن ترفعه مثل الأريل، يرتفع وإلا فاتركه محله، واترك الدين عظيم محله كائناً من كان.

الآن يواجهوننا بمنطق يشبه منطق السنية داخلنا [فلان أو فلان] وأحياناً بعبارة: [العلماء، أو فلان من أئمة أهل البيت] أو بعبارات من هذه، نقول هذه قاعدة عامة، قاعدة عامة سواءً كانوا من أهل البيت، أو من الصحابة، أو من باقي الأمة، أي شخص نرى بأننا بحاجة إلى أن نهبط الدين فنرى أنفسنا ونحن نحافظ على نزاهته في الوقت الذي يكون على حساب قدسية الله، أن هذه قضية تعتبر من باب اتخاذ أنداد من دون الله، ليست قضية سهلة.

عندما نرى أي إنسان إن أمكن أن يكون منسجماً مع الدين إذاً فسابر وإن أدى إلى أن يهبط الموضوع، وأنت تدافع عنه فلا، معلوم، معلوم أنهم وهم يدافعون أحاديث صحيحة لديهم؛ لأن فيها ((علي)) ويغطون عليها، ويحاولون أن يتأولوها بشكل لا يلزم أن يكون علي أفضل من أبي بكر! ماذا يعني هذا؟ ألا يعني: أن أبا بكر نازل، لو أنه كان يمكن يركب عليه هذا الموضوع وهو على مقاسه، أن يكون هو، اسمه بدل اسم علي في أي حديث من هذه الأحاديث الصحيحة المعلومة الهامة، وليست فقط فضائل هامشية، فضائل أساسية.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(المائدة: 69) يعني: موقف هذا الدين من الآخرين ليس موقفاً طائفياً، أو قومياً أو شخصياً، هو دعوة للكل إلى أن يدخلوا فيه، ومن دخل فيه – وإن كان من الذين هادوا والصابئين أو النصارى من أي فئة كان – سيصبح حكمه حكم المؤمنين {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

ولاحظ الأشياء التي تتكرر في القرآن من البداية كيف أنها تحاول وكأنها تزيح من نفسيتك شيئاً قد ربما يترسخ فيكون في الواقع غير إيجابي بالنسبة للقضية بكلها؛ لأنه قدم الحديث عن بني إسرائيل أنهم فعلاً أطروا الدين في إطار قومي، وشخصي، وعرقي، أليس هكذا؟ وسموه باسمهم هم، يهودية، ألم يسموا الدين باسمهم؟ وسموا النصارى الدين باسمهم، نصرانية؟ والدين عند الله الإسلام.

ثم تأتي هذه القضية أساسية وهامة في موضوع إقامة الدين، إقامة الدين هو: أن تقدمه بعنوانه العام، وأن تكون حركة الناس فيه، وفي سبيله على أساس ماذا؟ على أساس رؤيته العامة هذه وليس وفق ماذا؟ رؤية شخصية، أو موقف شخصي، يعني: ألا يغلط المسلمون كما غلط بنو إسرائيل فيؤطروه في أطر قومية، أو مناطقية.

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}(المائدة: 70) رسل منهم من بني إسرائيل {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}(المائدة من الآية: 71) وهذه حالة يبدو قائمة عند الكثير من الناس، عنده أنه يمكن أن ينصرف عن هدي الله، وعن بيناته، ويعتقد [أن ما هناك خلة] {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}(المائدة: 71) انتهت المسألة إلى ماذا؟ {وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}(التوبة من الآية: 93) فعموا وصموا الكثير منهم، ومتى ما عمي الناس وصموا.. لاحظ كيف يقدم لك هؤلاء؟ قضية خطيرة جداً، لا يعد يهتدي الإنسان للصواب، ولا يعد لشيء من هدى الله قيمة لديه، وإن كان يفهم، انتهى الموضوع {عَمُواْ وَصَمُّواْ} تاب عليهم عسى أن.. لم ينفع {عَمُواْ وَصَمُّواْ} في الأخير قال بعد عندما قالوا {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}: {بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}(النساء من الآية: 155).

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}(المائدة من الآية: 72) مع أن المسيح ركز على موضوع توحيد الله، وتذكير الناس بأن يعبدوا الله {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ألم يقل: ربي وربكم؟ {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}(المائدة من الآية: 72) ومع هذا قالوا: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} ألم يقولوا: ثالث ثلاثة؟ اعتبرهم كافرين {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}(المائدة من الآية: 73) لا يصح، ولا يمكن، وليس واقعاً نهائياً، أن يكون هناك آلهة متعددين، ليس هناك إلا إله واحد هو الله. {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(المائدة من الآية: 73) الذين لا ينتهون، رافضين لهذا التوجيه فلا ينتهون ليمسنهم عذاب أليم.

{أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة: 74) لأنها قضية كبيرة يجب عليهم أن يتوبوا، يرجعوا إلى الله، ويطلبوا منه المغفرة {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}(المائدة من الآية: 75) يعني: هم بشر {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ}(المائدة من الآية: 75) هم أناس كانوا يأكلون الطعام، ألستم تعرفون بأن من يأكل الطعام مثلكم هم ناس؟ فلماذا تجعلونهم آلهة؟. {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(المائدة من الآية: 75) مع هذا البيان الواضح كيف يصرفون هناك فينصرفون بعيداً في إصرارهم على دعواهم {إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}، ويجعلونه إلهاً، ويجعلون أمه كذلك.

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}(المائدة من الآية:76- 77) فكانوا يعظمون المسيح، ويحبون المسيح إلى درجة أن جعلوه رباً! أليس هذا غلواً، هذا من الغلو. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(المائدة من الآية: 77) هذه المعتقدات التي تعتقدونها هي ضلال؛ لأنه بين لهم ماذا قال المسيح، أن المسيح قال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ}(المائدة من الآية: 72) إذاً فما حصل هو نتيجة أهواء من متأخرين من بعد ممن ضلوا، لكن لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، ومعنى هذا بأن الإنسان عندما يكون على ضلال، وإن كان بينه وبين من هو منبع هذا الضلال آلاف السنين لا يقول: ما دام قد له – مثلاً – ألف سنة بينه وبين ذلك الذي بدأت هذه العقيدة من عنده، ألف سنة، أو ألفين سنة، أو ثلاثة آلاف، فقد صارت حقاً! لا يتحول الباطل إلى حق مع مرور الزمن، أو يتحول الضلال إلى هدى مع مرور الزمن.

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(المائدة من الآية: 77) هذا خطاب للمسلمين، كما هو خطاب لبني إسرائيل تماماً بأن على الناس أن لا يتبعوا أهواء من ضلوا من قبل وإن كان بيننا وبينهم مئات السنين، يَبِيْن أن هذا الشيء هوى، يَبِيْن بأنه ضلال، من خلال عندما تعرف الهدى، عندما تعرف بينات الله، وتعرف الهدى الذي من عند الله، ستعرف بأن الشيء الآخر هو ضلال، ولأنه هنا يبين الضلال ما هو، ومنابع الضلال كيف تكون.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}(المائدة: 78) تجد هذا الكلام كله أليس هو يتحدث عن أمة ذكر في آيات أخرى بأنه اصطفاهم واختارهم على العالمين، بمعنى أنه ماذا؟ عندما ينصرفون عن هدى الله، عندما يتبعون أهواءهم، ويتبعون من ضلوا منهم، تنتهي المسألة إلى هذه، إلى خزي، إلى ذلة،إلى مسكنة، إلى لعن {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} ليس لكون اسمهم بني إسرائيل؛ لأنهم عصوا، واعتدوا، كذلك من يعصي ويعتدي.

{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(المائدة: 79) هذا يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما ترى المسألة على هذا النحو، يكون قد حصل مثلاً من خلال فلسفة معينة قدمتها بالشكل الذي يضيعها داخل بني إسرائيل، وداخلنا، خطاب القرآن فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل أساسي أنه يجب على المؤمنين أن يكونوا أمة، عندما يكونون أمة، كتلة واحدة متوحدة تستطيع أن تغير منكرات، وتستطيع أن تقيم معروفاً، وأن تأمر بالمعروف، لكن قدم الموضوع بشكل ماذا؟ فردي: أنه يجب أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا كان، وإذا.. وإذا.. وإذا..!! وإذا كان سيحصل عليك كذا، خائف من ضر يلحقك، وخائف على كذا، أو تظن بأنه لا يؤثر، فهنا لم يعد عليك شيء! لم يقدم كخطاب أنه يجب أن يكون الناس أمة كما قال الله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(آل عمران من الآية: 104) ألم تُضَيَّع قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لم يبق إلا الأشياء التي هي بسيطة جداً، لا يوجد فيها خوف نهائياً، المنكرات الكبيرة والمتوسطة والكبيرة جداً أصبحت لا أحد ينهى عنها؛ لأن كل واحد قد خوطب خطاباً فردياً، ووجه إليه الموضوع توجيهاً فردياً، ورأى بأنه هو لا يستطيع، فلم يعد يلزمه، وكل واحد مثله من باقي الناس، من باقي أفراد الأمة، أو علمائهم!.

فعندما تقدم فلسفة معينة، أو منطق معين يؤدي بالمسألة هذه إلى أن تضيع، فهنا يصح في الأخير أن يقال: {لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} بأي اعتبار كان، معناه أنك جئت تخاطب الناس خطاباً يجعل هذه القضية ضائعة، يضيعها من أوساط الناس نهائياً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي قضية أساسية لا بد من أمة، ويجعل الناس أنفسهم أمة بكل ما تعنيه الكلمة، وفي نفس الوقت يتناول الإنسان كفرد، كل ما بإمكانه أن يتناوله من القضايا التي هي واضح أنها معروف، وواضح أنها منكرات في محيطه، يضاف إلى كونه واحداً من أمة يتحرك لتغيير المنكرات؛ لأن كثيراً من المنكرات لا تستطيع أنت لوحدك، مع الآخرين تستطيع أن تغيرها.

{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(المائدة من الآية: 79) كما قال سابقاً: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(المائدة من الآية: 63) لاحظ كيف غابت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أوساطهم نتيجة ثقافة تضليلية، قال هنا: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} ثقافة تضليلية أدت في الأخير إلى غياب مبادئ هامة في الدين، وضرورية بالنسبة للأمة، تنتهي المسألة إلى أشياء كبيرة هي هنا: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}(المائدة من الآية: 80) أليست المسألة انتهت إلى هذه؟ {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}(المائدة من الآية: 80) هذه قضايا غير قابلة للابتعاد عنها لأي فلسفة مهما كانت، أي فنقلة، وأقوال، وتحليلات، وفلسفات تجعل هذه القضايا على هذا النحو؛ لأنه إذا ما هناك أمر بالمعروف، قد تصل الأمة إلى أن تتولى بما في مقدمتهم علماؤها، يتولون الذين كفروا، متى تصل بك الحالة إلى أن تتولى الكافرين؟ عندما يكونوا هم في وضعية أقوى، وأنت في وضعية مستضعف، أليس هكذا؟ وعندما تكون المسألة عندك قد قدمت بشكل أنه قد صار يجوز لك، ولا يلزمك هنا، ويجوز لك هناك، هذا يعني: تولي.

الآن لاحظ لا يوجد أمر بمعروف، من أهم المعروف مثلاً: الجهاد في سبيل الله، أن يعد الناس أنفسهم، وأن يعدوا كل ما يستطيعون من قوة لمواجهة أعداء الله، أليس الناس ساكتون عن هذا المعروف؟ تكون النتيجة في الأخير ماذا؟ أن يتولوا الذين كفروا، سيقول فيما بعد: [أمانة باهر، أما الحاكم هذا الذي نصبوه لنا باهر، وليس مثل الحاكم الأول] وهكذا يصبح الناس في وضعية – لغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – يصبحون إلى درجة أن يتولوا الذين كفروا.

{تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}(المائدة: 80) هذا – نعوذ بالله – من أخطر الأشياء {أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ} هنا في الدنيا، وفي الآخرة، والسخط يعني: وراءه خزي وعذاب وأشياء شديدة نعوذ بالله. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}(المائدة من الآية: 81) بأي نبي من أنبيائه، لو كانوا يؤمنون ما اتخذوهم أولياء، ولما وصلت بهم الحال إلى أن يتخذوهم أولياء، {وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(المائدة من الآية: 81) خارجون عن هذا النهج الذي رسمه الله لهم، عن هذه الطريقة التي رسمها لهم.

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}(المائدة من الآية: 82) هنا يوجد تركيز على قضية؛ لأنه أحياناً عندما ترى طرفاً آخر، موقفه منك متشدد، ويقدم أشياء من لديه، يقدم قوانين، أو باسم رؤى، أو أفكار، أو أشياء من هذه، ولا يرضى أن يقبل ما لديك، أحياناً إذا ما عندك معرفة بواقعه، ومنطلقاته، ودوافعه، قد يحصل عندك اضطراب، فتظن أنه فعلاً قد يكون عنده رؤية أخرى، فتنتظر ما يقدم؛ ولهذا دائماً هنا في القرآن الكريم يبين لك الطرف الآخر: لأنه هكذا في واقعه، ليس إلى مستوى – على الإطلاق – أن يقدم أي شيء جميل، أن يقدم أي شيء جيد، أبداً، ما قد تراه يقدمه جيد، وراءه سوء، فهنا يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}.

فعندما نراهم معادين لنا بشدة، لا نرجع إلى أنفسنا – وهذا الذي يحصل أعني: من النعمة علينا ربما في هذا العصر عندما نقرأ القرآن نجد الأمثلة متوفرة بشكل كبير أمامنا – متى ما رأيناهم معادين لنا، جاء الكثير منا، من داخلنا، يعود علينا نحن، [اسكتوا، أنتم ستؤثرون علينا بأننا نتشوه أمام الغرب] لماذا؟ لأنه ينظر إليهم وكأنهم إيجابيين، وكأن منطلقاتهم صحيحة، وكأن رؤاهم تنطلق من نفوس طاهرة، وقلوب طاهرة. هنا القرآن يبين واقعهم، يبين واقعهم حتى أنك لا تضعف أنت، أو تضعف ثقتك بما أنت عليه، وفي الأخير تحاول أن تتنصل من أشياء من لديك، أليس هذا الذي يحصل الآن في الأمة؟ فاعرف بأنهم هم لما كانوا على هذا النحو؛ لأنهم سيئون هم؛ لأنه هكذا منطلقاتهم، ودوافعهم، ونفسياتهم، بالشكل الذي يقدمهم سيئين أمام ما كان من داخلهم هم، من أنبيائهم، وكتب تنزل عليهم، بينها بشكل واضح.

تجد ألم يكن الناس بحاجة إلى هذه الرؤية؟ لأنك عندما تلمس متى ما قالوا هناك: [الإسلام هذا دين العنف لم ينتشر إلا بالسيف] يعود صاحبنا علينا [اسكتوا ولا كلمة عن الجهاد ولا كلمة عن كذا شوهنا الإسلام أمام أولئك] أليسوا في الأخير يقولون هكذا: [اتركونا نقدم صورة جميلة عن الإسلام أمام الغرب]؟ وعلى من يرجع؟ هو لا يرجع بالطريقة التي تجعله فعلاً يقدم صورة جميلة عن الإسلام في الداخل وأمام الغرب، لا، وإنما يحاول أن يبعد الأشياء الجميلة في الإسلام، الأشياء الهامة التي تجعل هذه الأمة تقدم بشكل جميل أمام الآخرين!.

فعندما يشرح كثيراً عن نفسياتهم، عن أهدافهم، عن توجهاتهم، هم ليسوا إلى درجة أنك تراجع نفسك على الإطلاق أمام أي مطلب من لديهم، أو دعاية من لديهم، تراجع نفسك فتقول: [أمانة عندنا غلط] وأنت تسير على طريقة صحيحة، راجع نفسك عندما ترى بأنهم يستغلون أشياء هي أخطاء حقيقية، تنسفها قبل أن يستغلوها لتشويه الإسلام، هذه أبعدها أنت، أشياء سيئة حقيقة، لكن ما كونهم ينقدونها؛ لأنهم جيدون في كل ما ينقدون، ليس المعنى أنهم جيدون، هم سيئون، لكن هم سيئون، إذا كان لدي شيء هو سيئ، ولن يكون هناك شيء من داخل الإسلام سيئ نهائياً، لا يوجد داخل الإسلام ما يمكن أن يستغل فيشوهه، ويقدمه سيئاً، إنما ما يقدم من جهة المسلمين أنفسهم على طول المرحلة هذه، مئات السنين، كثير من المعتقدات، والرؤى، وحسبوها على الإسلام، وهي بعيدة عن الإسلام، هي مشوهة للإسلام في داخلنا ما بالك أن تكون مشوهة أمام الآخرين.

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً}(المائدة من الآية: 82) أقرب الفئتين، هنا يجب أن نلحظ مسألة: أقربهم، هناك أشد عداوة، وهنا أقرب، اقرب الناس هؤلاء مودة للذين آمنوا، ميلاً إليهم، ميلاً ممكن يحدث استجابة لهم ويميلون إليهم {الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} يعني: فئة معينة داخلهم، ولا أدري هل ما يزال هناك من هذه الفئة، أو ليس هناك أحد داخل النصارى فئة هي تبدو ملتزمة؟ هنا يذكر تاريخها، فكان منهم من أدركوا الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) فآمنوا. {الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} ماذا تعني العبارة هذه؟ هنا يقدمهم بشكل عندهم رؤية صحيحة عن الإسلام، عن الدين، نحن نصارى أي: معناه نحن أنصار لهذا الدين مثلما قال سابقاً: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ}(آل عمران من الآية: 52) ليسوا فئة تقدم الدين وتعطيه هوية قومية تسميه باسمها هي، {إِنَّا نَصَارَى} هذه فئة لا نعلم عنها شيئاً الآن.

{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(المائدة: 81 – 83) لاحظ: آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، أي: كأنهم امتداد لمن قالوا: نحن أنصار الله، فعندهم الرؤية هذه: نحن مؤمنون بك، ونحب أن تكتبنا مع الشاهدين، ما معنى الشاهدين؟ مثلما قلنا سابقاً: أنصار لدينك، نجسد دينك، نمثله بشكل نقدم شهادة لعظمته.

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}(المائدة: 84) وهذه رؤية صحيحة عندهم، هاتين العبارتين تشخص واقعهم، ناس عندهم حرص كبير على أن يعملوا أعمالاً صالحة، لم نعد نحن بالشكل هذا! للأسف لم يعد السائد في أوساط المسلمين هذه الرؤية، في ثقافتهم، في حركتهم، هو: أننا نريد أن نعمل عملاً صالحاً، تجد الكثير محاولين فتاوى، هل قد وجب، هل قد لزم! هؤلاء لديهم الرؤية هذه التي حكاها الله عن سليمان عندما قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل من الآية: 19).

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ}(المائدة من الآية: 84) هذا معنى أنهم لا يستكبرون: مسلمين أنفسهم لله، فعندما جاءهم الحق قبلوه بكل بساطة، هي هذه الفئة، ولا نعلم بأحد من هذه الفئة، لو حصَّل الناس هذه الفئة لكانت سريعة الإيمان، لكن هم قدموا أنفسهم متميزين عن الباقي من البداية {الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} أليست هذه تعني أنهم فئة لا يعتبرون أنفسهم كالباقين، ولا تحت العنوان العام بكل ما تحته من مفاهيم باطلة، وضلال، فقدموا أنفسهم وكأنهم فئة أخرى من داخل هذه الطائفة الكبيرة.

{فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ}(المائدة: 85) هذه الآية لا تعني أن تقول في المقابل النصارى، تأتي تأخذها وتقول: النصارى أقرب الناس مودة، قد يكون النصارى الطبيعيين، قد يكونون أقل من اليهود عداوة، وليس المعنى أنهم يودوننا، ولذلك تجد ما عملوا في الأندلس، ما عملوا في بلدان أخرى، ما يعملونه اليوم أشياء سيئة جداً، أليسوا هم الآن يتحركون هم واليهود بشكل واحد؟ قدمهم في القرآن وكأنهم اتجاه واحد [أهل الكتاب، أهل الكتاب] ويقدم أحياناً تفاصيل تبين أن المراد اليهود، وتفاصيل تبين أن المراد النصارى، بعده يأتي بحديث عن رؤيتهم العامة بالنسبة للناس.

إذاً فالنصارى بشكل عام قد يكونون بوضعهم الطبيعي أقل عداوة من اليهود، أما أن تقول: أن لديهم – أيضاً – مودة، ولديهم ميل، لا، النصارى بشكل عام، هنا يقدم لك طائفة معينة متميزة ميزت نفسها هي: {الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} يحكي عن داخلهم بأن من كان منهم قسيسين آمنوا وأسلموا في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).

إذاً من قيمة هذه هي تبين أيضاً بأن دين الله سبحانه وتعالى، وهداه، هو بالشكل الذي يترك أثراً كبيراً عند من يحبون أن يتأثروا، ويستجيبوا، مثلاً نوعيات كهذه متميزة، ألم يقدم هذه داخل بني إسرائيل؟ حتى داخل اليهود، ألم يقدم نماذج عالية؟ هذه هي في نفسها تقدم شهادة على أن الآخرين فيما هم عليه من ضلال وخبث إنما كان بسبب أنفسهم هم، عنادهم هم، انصرافهم هم، أما دين الله من يقبله، ويهتدي به، لاحظ كيف نماذجه التي يقدمها.

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}(المائدة86 – 88) نهاهم في البداية بالنسبة لأهل الكتاب {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}(المائدة من الآية: 77) مثلما قال هناك لأجل المسلمون لا يصلون إلى أن يغلوا في أي شيء من تفاصيل دينهم، لا يحصل غلو، فكأنك متشدد بزيادة في موضوع معين، فتتجاوز الحد، فإذا تجاوز الإنسان الحد إنما هو يدخل فقط في ضلال، لا يوجد من الحق وكذاك إلا ضلال.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ} ولو تحت اسم آخر، أو تحت ترويض آخر، أو فلسفة أخرى. {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لا تتجاوزوا حدوده، {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} هنا تجد بأن الدين قدم مسؤولية كبيرة، ألم يقدم مسؤولية كبيرة وعملية بشكل واسع؟ ليست بالشكل الذي تحول دون أن تأكل من الطيبات؛ لأنه لا يقدم الموضوع وكأنك لازم تضحي بطيباتك، وتضحي بكل شيء، يعني: لا تقرب هذا ولا تقرب هذا ولا.. ولا.. ولا من أجل أنك تقوم بهذه المهمة، مهمة بإمكان الناس أن يقوموا بها بالشكل الطبيعي، إنما يكون بالشكل الذي يتجاوزون الصعوبات التي هم فيها في مسيرتهم العملية، فإن حصل طيبات أكلوا، ما حصل طيبات مشوا، مثلما كان يعمل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) والإمام علي، إن جاء لحم أكل، وإن لم يأت إلا ملح أكل في ملح، وإن جاء شعير ولبن أكل شعير ولبن.

بمعنى لا يقدم التقشف بأنه جانب مهم من الدين، هذه حصلت، حصل قدم وكأنه جانب مهم من الدين، أن تتقشف، وأن تبتعد عن الطيبات، ويقدم لك [كان الإمام علي يأكل شعير وملح وكان رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يضع على بطنه الحجر وكان.. وكان.. وكان..] فأنت عندما تبعد نفسك عن الأشياء هذه تبقى مؤمناً ضعيفاً، لا تستطيع أن تعمل شيئاً، وتعتقد بأنك قد أصبحت من أولياء الله، وأنت ترى نفسك في ضعف شديد، قد اصفر لونك. لا.. رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان يأكل لحماً، ويتحرك، هذا هو العمل الصحيح، تتحرك وتقهر كل الصعوبات التي أمامك، سيقاتل وإن كان جائعاً، وإن لم يكن ما يمسك بطنه ليشده إلا حجر يضعها، وليس أنه كان يتعبد لله بالجوع، وباستطاعته أن يأكل لحماً، أو تمراً، أو أي شيء آخر أمامه، في متناوله، لا تحصل هذه.

جاؤوا يقدمون لنا في تراجمهم هذه، ويصبح الدين أن يكون الإنسان بهذا الشكل، يترك كذا، ويترك كذا، وكان الإمام الفلاني، وكان رسول الله، وكان الإمام.. والإمام.. وفلان المتعبد. لكن لا، يجب أن يفهموا أنه على هذا النحو، لا تعتقد أن الإمام علياً كان يتعبد لله بأكل الشعير والملح، يتعبد لله بالحركة ولو أدى الأمر إلى أنه لا يلقى إلا ملح وشعير سيأكل ملحاً وشعيراً، أو يضع على بطنه حجراً، ولكن متى ما وجد أكلاً طيباً سيأكل، فلا يكون الإنسان منشغلاً يدلل نفسه دائماً همه أنه يحصل طيبات، ولا يكون بالشكل الذي ينقلب على عقبيه، إذا حصل شيء من الشدائد، يعمل إلى الإمام، وستنتهي المسألة إلى أن يتجاوزوا الشدائد، يعمل، لقي طيبات أكل، لقي فراش جيد رقد عليه، لقي بطحاء فوق البطحاء، لقي صخرة فوقها، يلقى شعيراً يأكله، يلقى براً يأكل، لا يربط نفسه بطيبات، يشغل نفسه بروتين معين من الغداء والتخازين والأشياء هذه، ولا يحاول أن يتعبد إلى الله بأشياء قد تكون داخله ضمن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ} عندما تحمل نفسك على الامتناع وكأنه تعبد، وهذا الذي قدم الزهد هذا! ألم يقدم على هذا النحو؟ معنى التحريم هو منع نفسك وإن لم يكن حكماً {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}(آل عمران من الآية: 93) منع نفسه من أشياء يمنعها ويعتبر أنه قد صار متعبداً لله بالامتناع عنها، من أجل ماذا؟ من أجل أنه قد صار يعتبرها ديناً في حد ذاتها.

الإمام علي أجاب على من قال: كيف يستطيع أن يقاتل وهو على هذا النحو، إذا كنت أنت تروض نفسك ترويضاً في إطار أن تكون متجلداً، تتحمل العمل، هذا هو الذي يعتبر عبادة، أن تحاول أن تصبر نفسك على أي شيء، لا تعود نفسك على فراش وثير، ولا على مآكل طيبة، تأكل أي شيء، لا تهتم؛ لتروض نفسك على أن تتحمل أن تعمل في أي مرحلة كانت، فلا بأس، أما أن تكون متعبداً بنفس هذا العمل لوحده، أن تبتعد عن الطيبات لتقدم وأنت زاهد في الدنيا، وممن هجروا الدنيا، وأولياء الله هم على هذا النحو، وبعدها الجنة، فربما تكون في الواقع ممن يعتدي، أي: يتجاوز، يحصل التجاوز على هذا النحو: تمنع نفسك من أشياء، ثم في الأخير وإذا أنت تتعبد لله بها، وتصبح هي في حد ذاتها عبادة أمامك، وتضعف عن العبادات الأخرى، ولست حولها، ليست ذهنيتك حولها، تكون فقط ترى هذه، وقد صارت هذه هي العبادة الهامة، الزهد في الدنيا، لو لم يجاهد واحد، أليس هذا هو الاعتداء {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(المائدة من الآية: 87) التجاوز.

{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً}(المائدة من الآية: 88) هنا يبين أيضاً فيما يتعلق بأعداء الأمة، وأنهم قد يكونون بني إسرائيل، وهذا الذي وقع، أعداء يأتون للأمة من كل مجال يمكن أن ينفذوا إليه، أن مواجهتم قد لا تصل إلى الحالة هذه، يقدر الإنسان بأن الجهاد في سبيل الله ومواجهة أعداء الله يعني: ستقفل مجالات الرزق، كثير كان يعتقد هذه، عندما بدأنا نرفع شعاراً يكون عنده أنهم سيقطعون [البر] علينا، ألم يكن البعض يقولون هكذا؟ طلعوا إلى الأسواق براً آخر، ألم يطلع بر آخر إلى الأسواق؟ لا يقدر الإنسان أنه إذا تحرك في سبيل الله، أو أمام أعداء من هذا النوع الذين هم أعداء، يعملون بكل وسيلة بما فيها الحرب الاقتصادية، أو وسائل كثيرة، أنك عندما تواجههم سيتمكنون من أن يقطعوا رزقك، بل ربما لا يقطعون الطيبات، بل قد تأتي الطيبات عندما تواجههم فعلاً من عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الطيبات هي من عنده، أمطار ينزلها، وبركات ينزلها، وتحصل طيبات للناس.

{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} جاهدوا وكلوا {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}(المائدة من الآية: 88) أليس هذا من الأشياء العجيبة الآية هذه أن يقول: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} وبعدها يقول: {وَاتَّقُواْ اللّهَ} هل المعنى أن تتقيه أن تأكل من الطيبات؟!… كل وجاهد، والله قد قدم في القرآن عندما قال: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قدم بأن العاملين معه لا يخسرون على الإطلاق، إذا ظهرت خسارة فتكون شكلية صورية فقط، يأتي بعدها ما هو أفضل منها بأضعاف؛ ولهذا قال: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} اتقوه، لا تعتدوا تحت أي عنوان كان، واتقوه، لا تقعدوا تحت أي خوف من ماذا؟ أن لا يحصل رزق، أو لا تحصل طيبات، أو أشياء من هذه.

لاحظ بعض الناس هنا هم في مقام أن يقال لهم: واتقوا الله، عندما يأتي يريد يأكل براً أمريكياً؛ لأن لونه أبيض، يوجد فيه قليل بياض فهو غير مستعد أن يضحي بقليل لون قد يكون هذا اللون الفارق بينه وبين بر آخر متوفر في السوق وأرخص منه أرقام قليلة جداً، فهو غير مستعد، يريد الطيبات، هذه هي الحالة السيئة، لا يريد أن يضحي بلون بر مع وجود بر آخر، في سبيل أن يؤثر على العدو، ويقاطعه اقتصادياً، ويكون عاملاً في سبيل الله، {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} وسيوفر لك شيئاً آخر، لو تنازلت عن لون في هذا البر، قد يجعل في البر الآخر بركة، وقيمة غذائية لك أحسن من مجرد اللون؛ لأن لون القرص ماذا يعمل لك، هل لون القرص يعطي قيمة غذائية؟ قد يكون لونه معه سموم في الواقع، وقد يكون بر آخر، ما يزال يزرع زراعة طبيعية، وهو أرخص، يكون لونه أسود، قد يكون له قيمة غذائية أفضل، وبعيد عن خبرة تجعله مسمماً، يؤدي إلى أمراض شديدة.

إذاً فالإنسان بحاجة إلى أن يتقي الله حول قضية الأكل من الطيبات، ليس معنى الآية كلوا غصباً، كلوا حلالاً طيباً غصباً، القضية هكذا: اتق الله هنا وهنا، اتق الله أن تحول الطيبات دون أن تعمل في سبيله، واتق الله أن تتعبد بالتقشف، وأنت تمتنع من الطيبات فتعتدي، تصبح من المعتدين، تتعبد بعبادة وهمية، وتكون عبادتك هذه على حساب العبادات الحقيقية، مثلما يقدم موضوع الزهد.

{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}(المائدة من الآية: 89) إلى آخر موضوع الأيمان وكفاراتها، أيضاً تحريم الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، مثلما يظهر هكذا أسلوب القرآن الكريم يتناول مختلف القضايا، أليس هو يتناول مختلف القضايا؟ يتحدث عن العدو، يتحدث عن مواجهته، ويشخصه ويتحدث عن القضايا الكبيرة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(المائدة من الآية: 67) ويتحدث عن تحريم الخمر، ويتحدث عن الكفارات للأيمان، وهكذا، هذا ماذا؟ تشريع متكامل، وفي أول السورة، في آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(المائدة من الآية: 3) تجد هنا، تلمس كمال هذا الدين، يتناول القضايا الكبيرة والصغيرة، ويقدمها بشكل لا يكون الاهتمام ببعضها على حساب الشيء الآخر منها أبداً، يقدمها بشكل لا يكون هذا يعيق قيام هذا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة: 90) وهدى الله أليس يقدم للناس على أساس أن يكونوا مفلحين، وأنه فقط من جهة الله؛ ولهذا قال في آيات أخرى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن المُمْترَِيْنَ}(البقرة:147) أما الآخرون فهم لا يقدمون إلا أشياء سيئة، ضلال ورجس {فَاجْتَنِبُوهُ}؛ لأن هذا هو من الشيطان، والشيطان لا يملك إلا رجساً وضلالاً وخبثاً، يجعلكم بمنأى وبمعزل عن تأثير هذا الهدى عليكم في نفسياتكم، وفي واقعكم.

{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ} الميسر كأنها عملية القمار المعروفة، الأنصاب الأوثان، الأصنام، والأزلام القداح التي كانوا يستهمون بها، يسافر أو لا يسافر، يذهب أو لا يذهب {رِجْسٌ} قذرة، رجس للنفوس، يقذر النفوس متى ما تقذرت النفوس أصبحت لا تقدم إلا – أيضاً – رجساً {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ}(المائدة من الآية: 91) ليس لأن الشيطان هو يريد أنك ترتاح أن تشرب مشروباً قد يكون طعمه حالي، أو أشياء من هذه، أنه يريد ذلك، يبحث كيف ترتاح، لا، هو لديه أهدافاً أخرى ثانية، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر؛ لأنها تؤدي أيضاً إلى عداوة بين من يشربون، أنهم يتشاتمون، ويتضاربون، وأيضاً الميسر عندما يتقامشون، القماش هذا يؤدي أيضاً إلى عداوات في النفوس، ماذا يعني هذا؟ ألا يعني: أن دين الله يقدم على أساس بناء النفوس، وبناء المجتمع بناءً متآلفاً يجعل من هذا المجتمع أمة متوحدة متآلفة، بعيدة عن كل ما يثير العداوة والبغضاء فيما بينها، وهل من أجل أن يكونوا متفقين فقط، أو على أساس ماذا؟ مسؤولية، ومهام ينطلقون فيها، ليس الهدف اتفقوا وسكتة، لا، يجب أن يكونوا أمة؛ لأنه هناك قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}(آل عمران من الآية: 104) فلاحظ أنه عندما يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} انه يتجه إلى الأشياء التي تبين لك كيف بناء الأمة، أنه من جهته يعمل، يبعد ما يحول دون بناء أمة، ومنها هذه: الخمر والميسر، تجد الآخرين لا ينشطون في هذه؛ لأنهم الغاية لديهم هي الغاية الشيطانية تماماً، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أليسوا يشجعون على نشر الخمر والمخدرات، ومحلات القمار، يريدون أن يحصلوا على مكاسب مالية، وأيضاً يخلخلون الأمة هذه، هذا يسكر هنا، وهذا يسكر هنا، واجتمعوا وهم سكارى، فهل يمكن في هذه الحالة أن يناقشوا قضية هامة؟ لا يمكن، هل عندما تقول له: أعداء الله هؤلاء الغربيون متجهون علينا، وهم مفسدون، سيقولون: [سبرت، هذا الذي نريد] مفسدون ينشرون الخمر، ويعملون دور للقمار، ليست هذه مشكلة عنده، هل سيحصل مشكلة عنده؟.

ترى كيف أن القرآن هو متجه ليبني الأمة بناءً صحيحاً، أمة نفوس أفرادها نفوس زاكية، تطلع أمة زاكية، أمة حكيمة، وقوية.

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(المائدة من الآية: 91) يصدكم عن ذكر الله؛ لأن الإنسان إذا هو متذكر لله يكون قريباً بأن يخافه، ويتقيه، ويهتدي بهداه، ويثق به، وعن الصلاة، الصلاة كعبادة لها أهميتها في ماذا؟ في ذكر الله، الإنسان المفروض أن يكون في حالة دائمة من ذكر الله سبحانه وتعالى، والصلاة شرعت لتكون عبادة لازم يؤديها؛ ليكون هناك في حالة يكون قريباً من ذكر الله، وهو يذكر الله، يقرأ كتابه، ويكبره، ويسبحه، سيكون ذاكراً له.

إذاً فقضية ذكر الله عند الشيطان قضية خطيرة، يركز على إبعاد الإنسان عنها، أن يصبح ناسياً لله، ويعيش في حياته اليومية هكذا دائماً ناسياً لله، إذا كان ناسياً لله فسيتمكن أن يعمل به ما يريد.

{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ}(المائدة من الآية: 92) كثير مما قدم قضايا فيها الرسول، أليس يذكر فيها الرسول في الموضوع لماذا؟ لأن القضية هكذا، الدين يقدم دين ليقام، إقامته هنا أن لا تكون على يد الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وأمة تقيم الدين معه؟، {وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}(المائدة من الآية: 92) هذا تهديد، ليس المعنى أنه يقدم لك في الصورة: إذاً فمحمد (صلوات الله عليه وعلى آله) إنما هو عبارة عن موعظ، معناه: أطيعوه، أليس أطيعوه معناه أنه إنسان يأمر وينهى ويعمل؟ يجب أن يطيعوه، إذا تولوا معناه: الله من بعد، الرسول بالنسبة إليه سبحانه وتعالى – إنما هو مبلغ – هو سيعاقب.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(المائدة: 93) هـذه كأنها فيما مضى، أو كأنهم سألـوه كيف بالنسبة لإخواننا – مثلما روي – الذين ماتوا وهم كانوا شاربين، والله أعلم، قد تكون صحيحة. أو لا، يبدو من البداية بالنسبة لتربية المسلمين أن الإنسان الذي كان يتوجه فعلاً، يكون بعيداً عن القضية هذه، من كانوا يتوجهون لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ويعرفون قيمة هذا الهدى، ويلتزمون، يكونون بعيدين قبل أن يأتي عبارة فيها تحريم، فيها نص تحريم.

لأنه لم تكن تربيته على هذا الأساس: أن ينتظروا لفعل أمر يأتي بصيغة [افعل] لم يقرؤوا [أصول فقه] هم، لكن القضية تكون أحياناً مسكوت عنها، هم أنفسهم يرون أن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) لا يشرب الخمر، ولا الأشخاص المقربين منه، وهل في أجواء حركته ما يمكن أن يلمسوا منه رغبة إلى أن يشربوا الخمر فيها؟ أبداً، لا يوجد؛ قد يكون هناك حالة قائمة بالنسبة للمجتمع، هناك ناس أسلموا لكن ما زالوا مستمرين على الحالة الأولة في الأخير قيل لهم: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} وتقدم بهذه الطريقة التي فعلاً تدفعهم إلى الانتهاء إذا كانوا مؤمنين، بمعنى أنه كان الشيء الطبيعي لهم أن يتوقفوا، وهم يعرفون مسيرة هذا الهدى؛ لأنه يقول: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}(البقرة من الآية: 129) أي إنسان يسمع الآية هذه يعرف أن الخمر تتنافى مع الحكمة، مع التعليم، والحكمة، وتزكية النفس، أليس هو يعرف هذه؟ وفي نفس الوقت لا يرى أن هناك أي مؤشر على إباحته فيما يقدم إليه من هدى الله، ولا في الأجواء التي كان يعيش فيها رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن هناك ما يؤشر على أنها طبيعية عنده أبداً.

هذه: {فِيمَا طَعِمُواْ}، فيما قد وقع منهم، مثلما يأتي في كثير من الآيات الأخرى: {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف} لكن في المستقبل {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} وإلا فقد يؤاخذ على أنه سكير، وقاطع صلاة مثلاً، أو شيء من المعاصي الأخرى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}(المائدة من الآية: 94) ابتلاء إلهي {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}(المائدة من الآية: 94) عندما تلقى مثلاً صيداً سميناً، وليس هناك إلا أنت، وقد يمر من عندك، وأنت محرم، أو في الحرم وقد يمر من عندك، ولا هناك أحد ستستحي منه، أو سينهاك عنه، تحاول تمسكه وتذبحه، ويحصل عليه غداء دسم، قد يأتي ابتلاءات من هذا النوع مثلما حصل لبني إسرائيل، قد يأتي – مثلاً – صيد يمر من عند واحد قريب، هذا ابتلاء فعلاً فيه مشاق، التي يسمونها مشاقاً، يتميز، وهي عملية تربوية في الواقع، أنك متى ما أمسكت نفسك هنا تعطى هدى، ويزداد إيمانك، وفعلاً يستنير قلبك، مع أن القضية سهلة، هل هو حمل ثقيل أن يمر من عندك صيد غزالة مثلاً، أو أي صيد سمين؟.

{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ}(المائدة من الآية: 94) بعدما عرف النهي من الله سبحانه وتعالى واعتدى {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(المائدة من الآية: 94) هذه هل هي تأتي قضية مماحكة – على ما يسمونها – يجعل غزالة سمينة تمر من عندك ليقهرك، لا، {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فيتجلى في نفسيتك أنك تخاف الله، والإنسان بحاجة إلى الحالة هذه، وقد تأتي الابتلاءات أشياء عادية، ليست الابتلاءات معناها أحمال ثقيلة، قد يكون الابتلاء قضية بسيطة جداً في واقعها، لكن تتعامل معها بما يدل على أنك تخاف الله، فيحصل لها أثر كبير في نفسيتك، يعني: هي قضايا تربوية في الواقع، لها أثرها، أو مثلاً تعرض فتكون معرضاً لعقوبة.

قد يكون في مجال الجهاد، في مجال مواجهة أعداء الإسلام تحصل قضايا، قضايا هي ابتلاء للناس فعلاً بأشياء سهلة، وسمينة في نفس الوقت، يعني: لها أثر كبير مثل الصيد، فقد يمر من عندك غزالة سمينة، أو حمار وحشي سمين، أو بقرة وحشية، أو أشياء من هذه، قد يأتي في حياة الناس، وهم في مواجهة عدو تمر بهم قضايا هي فعلاً سهلة بإمكانهم أن يتناولوها، هنا بعكس موضوع الصيد، أليس الصيد قد تتناوله؛ لأنك لا تخاف؟ لكن هنا بأنك لا تعملها وباستطاعتك أن تعملها، وهي مهمة ومعروضة عليك، عرضت عليك، فهذا يدل على ماذا؟ على أنك لا تخاف الله، ألم يقل هناك: {وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بعد الحديث عن بني إسرائيل؟ أولاً أن يطلع في بالك: اتق الله، ومعنى أن تكون على هذا النحو، أن الله لا يغفل شيئاً، وكل قضية له توجيه فيها، وحكم فيها.

كيف يتبادر إلى أذهاننا أن قضية كبيرة كهذه قد يكون قد أغفلها أولاً يمكن أن يهدي إلى شيء فيها، وهنا هو يبين لنا قضايا بسيطة مثل قضية يمين، يبين كيف الكفارة فيها، إذا واحد حنث، بين هناك تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، أليس هو يبين قضايا عادية من هذه؟ فهل يمكن القضايا الكبيرة هذه أن تتصور بأنه ليس لله دخل فيها، أو ممكن أن يكون بالشكل الذي يهدي فيها إلى شيء فتنصرف عن أن تتقيه، أنه يجب أن تعرف أن هناك لله توجيهات، وأوامر ونواهي، وتعليمات واسعة جداً فيها، فيجب أن تلتفت من البداية، كما أنك ستلتفت إلى الله فتتقيه أمام صيد مثلاً يمر من عندك، أو أمام مثلاً شيء من هذه الأشياء التي هي تكون محرمات، لحوم محرمة مستوردة، هل أنت قد تخاف الله مثلاً ما تأكل؟ معناه أنت أمام قضية لله حكم فيها، لله توجيه فيها، أليست هكذا؟.

أما القضية الكبيرة فتكون ناسياً لله فيها، وكأنه ليس له توجيهات، ولا تعليمات، ولا حكم فيها، لا يصح هذا على الإطلاق، معناه: أنه يجب أن يكون ذهنك دائماً مرتبطاً بالله، وأن تعرف أن له توجيهات، وتعليمات، وأوامر ونواهي في كل قضية، بالذات القضايا الكبيرة، وأوسع تعليمات، وأوسع توجيهات، وأوامر ونواهي، وأشد خطورة، وأعظم فضل عند الالتزام في القضايا الكبيرة، فكيف لا ينصرف ذهني فأكون متقياً لله، لا ينصرف ذهني إلى الله فأتقيه. للأسف أن هذه قضية ملموسة عند الناس، يقول لك: أمريكا إسرائيل، وحالة خطيرة، لكن ناسي لله، ولا يتصور أن عليه مسؤولية هو فيتقي الله فيها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}(المائدة من الآية: 95) إلى آخر الآية، يعني: مما نأخذ منها بشكل عام من التفاصيل هذه أن تلمس إكمال الدين، وإتمام النعمة، وكيف أن هذا الدين كامل، ومتكامل من القضايا الكبيرة إلى أصغر القضايا، وفي مختلف المجالات، في كل الشؤون، وهنا تهديدات، أليس هنا تهديدات على صيد؟ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فإذا هناك عدو كبير يريد يصطاد الأمة والإسلام، ألا يعتبر السكوت عنه، والتخاذل أمامه، ألا يكون الناس مهددين بعذاب أليم؟ أنت ترى هنا تهديداً ووعيداً في قضية صيد، فكيف بالقضايا الكبيرة!.

ثم يذكر أيضاً: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ}(المائدة من الآية: 96) أنه هكذا ما تقفل المجالات تماماً متى ما تبدو وكأنك منعت عن شيء فالله يفتح موضوعاً آخر، حرم صيد البر، أحل لهم صيد البحر وهم محرمون، هذا يأتي في مقدمة الحديث عن الكعبة، يذكر هنا مقدمات محاطة بماذا؟ وأنت متجه إلى الكعبة، لا تقرب هذا الصيد، لا تعتد كذا، يعني: المسألة أنت في حالة متجه إلى مقام عظيم، إلى الكعبة، فعندما ترى تهديداً هنا، ووعيداً في قضايا صيد يعني ماذا؟ وهي تعتبر من الأشياء التي في محيط الكعبة، وفي أجواء المسير إلى الكعبة لحجها، واعتمارها، أليست هكذا؟ فيأتي بعدها: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ}(المائدة من الآية: 97) تقوم بها حياتهم، وإقامة لدينهم، ولا تتصور بأنه يمكن إقامة حياة بدون إقامة دين لأي مجتمع حتى ولا الغربيون أنفسهم، هل تظن بأن حياتهم الآن مستقيمة؟ ليست مستقيمة.

{جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} ألم يذكر هنا الأمن؟ ذكر الأمن سابقاً في آيات فيما يتعلق بالبيت الحرام، وفيما يتعلق بالشهر الحرام، يكون هناك أمن، البشر في الصراع فيما بينهم بحاجة إلى مكان آمن، وبحاجة إلى وقت آمن، زمن يكون آمناً تقوم به حياتهم، لا يتهالكون على طول في كل مكان، وفي كل زمان، {وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ} أيضاً، من قيام للناس؛ لأن الهدي يأكل منه كثير من الحجاج، والمعتمرون، ومن القلائد يستفيدون منها قد يكون بعضها كان يتعودون أن يجعلوها نعالاً، يستفيدون منها، وتجد فعلاً في الحج كم يحتاج الناس من أحذية! أليست الأحذية هناك تكون مطلوبة بشكل كبير؟ قياماً للناس حتى القلادة هذه ملحوظة؛ لأنها في إطار قياماً للناس، هل يمكن من يلحظ القلادة لإقامة حياة الناس يهمل القضايا الكبيرة؟ لا يمكن، فعندما يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(المائدة من الآية: 67) أليست هذه قضية هامة؟ قضية هامة في مجال ماذا؟ في مجال قياماً للناس، قياماً للأمة، إقامة للدين الذي على أساسه تقوم الأمة.

{ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}(المائدة من الآية: 97) لا يغفل لا صغيرة ولا كبيرة مما يشكل قياماً للناس {وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة: 98) فهو ملك، وهذا يتكرر في القرآن بهذا الأسلوب أنه ملك السماوات والأرض وليس ملك فقط يوعظ، ملك يثيب ويعاقب.   {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}(المائدة من الآية: 99) هذه عبارة تهديد يعني: الله هو المتكفل بهذه، يثيب، ويعاقب هو عندما يجعل الرسول كما قال سابقاً: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}(النساء من الآية: 64) وهذه من الأشياء التي تبين لك كيف أن القرآن لم يقدم بديلاً عن الله، والرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لم يكن بديلاً عن الله، الرسول في حركته، والقرآن في حركته يشد إلى الله فتلمس أن الله هو الملك، هو الإله، هو الرب، هو يهدي إلى الله، يقول هنا: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}(المائدة من الآية: 97) يعني: هو ملك الناس، ملك السماوات والأرض وما فيها، وهو بكل شيء عليم، يثيب، ويعاقب، فهو أرسل رسوله مبلغاً عنه، فهو الذي يثيب، ويعاقب هو، الله سبحانه وتعالى، ورسوله يهدي إليه، أليس هو يهدي إليه، ويعمل بهداه؟ فكل ما يعمله، وكل ما يدعو إليه، كل ما يتحرك فيه هو يشد الناس إلى الله.

{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كانت حركته على هذا النحو، يعني: حركته بالشكل الذي يملئ نفوس الآخرين توجهاً إلى الله، عبادة لله، لا يكون بالشكل الذي يكون مثلاً يلمس نفسه بأنه مثلاً ذكي، وعبقري، وقدير، فيحاول أن يشدهم له، له، مثلما يعمل الآخرون، الطواغيت، الله يقول هناك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ}(آل عمران من الآية: 79) هذه طريقته، عندما تقرأ الآية هذه {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} فاعرفها هي منهج تبين لك كيف كانت حركة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)؛ ولهذا نقول: أن القرآن أهم مصدر لمعرفة سيرة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، وشخصيته، في الآية السابقة: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}(المائدة من الآية: 92) كيف الصورة هنا: لكي لا تعتقدوا أنكم – مثلاً – أمامكم محمد، فقط محمد، ما كأنه يبعده من أمامهم، ويبرز هو سبحانه وتعالى في الصورة؟ هي نفس القضية هنا، حركة رسول الله تكون على هذا النحو: يوجه الناس بالشكل الذي يجعل ما يملئ مشاعرهم هو ماذا؟ التوجه إلى الله، واستشعار رقابة الله، وملكه، وألوهيته.. الخ.

كذلك الإمام علي، ولذلك نستبعد جداً أن يكون هناك أناس ألهوه – كما يقولون – إذا كانوا يجلسون عنده، ويسمعونه، لا يمكن أن يحصل عندك أن تؤلهه؛ لأنه يشدك إلى ماذا؟ إلى العبودية لله، ولا هو يقدم لك مؤهلاته بالشكل الذي يجعلك أن تعجب به وتعتقد أنه قد صار إلهاً، لا يحصل هذا على الإطلاق. الآخرين الطواغيت الذين يجعلون الناس يتخذونهم أنداداً من دون الله، هنا يشد الناس إلى نفسه فقط لم يعد يرى منه وفوق شيئاً، إلى عنده فقط، إلى أن يصبح رمزاً، أو أي عبارة من هذه، وعَلَم، وفقط لم يعد منه وفوق شيء.

بعضهم يفهمون هذه الآية بمعنى: الرسول عليه يبلغ، يبلغ، ثم يقول في الأخير: الدين هو فقط اهتماماته أنك تبين فقط {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}(الغاشية:22) أليسوا يقدمونها هكذا؟! لا، إنها بهذا الشكل: هو في المقدمة يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}(النساء من الآية: 64) وهنا قال بعبارة واضحة: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أطيعوا الرسول، متكررة، لكن ليفهموا بأن الله هو ملك، ملك حاضر، شهيد، رقيب، مثلما يقول لك: ابعد منهم، ذكر إنما أنت مذكر وانتهت مهمتك، عليَّ المسألة {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}(المدثر: 11) {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}(الغاشية: 25) ونظائرها في القرآن كثيرة بهذا الشكل، ليس معناها: أنك تقول: إذاً فالنبي كانت مهمته هو أن يوعظ فأنت تتعلم على أساس تطلع أيضاً موعظ فقط و{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ}(المائدة: من الآية99)، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} يعني: لا دخل لك بهم، ولا تفرض نفسك عليهم، ولا أشياء من هذه، يقدمونها بهذا الشكل! أليس الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(الأحزاب من الآية: 6) أليس هكذا؟ أليست الآية واضحة؟ يعني: يجب أن يطيعوه، ويتبعوه، هو أولى بك من نفسك، ليس هناك فوق هذا، بمعنى تطيعه وتتبعه. {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}(المائدة من الآية: 99) ماذا وراء هذه أنه هو سيؤاخذ، هو شديد العقاب.

{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة: 100) بشكل عام لا يعجبك كثرة الخبيث سواءً كان أناساً، أو مالاً، أو كيفما كان، لا يحصل عندك أن تعجب بهذا. هذه تعتبر قاعدة عامة، ولها علاقة بكل القضايا، لها علاقة بكل القضايا هذه، لاحظ في آية سابقة: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(آل عمران من الآية: 179) أليست هذه واحدة؟ قد يكون في التمييز أنه ناس ينفصلون هكذا، أو ناس يذهبون هكذا، أليس بهذا الشكل؟ قد يكون الإنسان بطبيعته يعجبه يرى كثيراً كثيرأً.. لا، لتكن مركزاً على الطيب وأنت تحول الكثير هذا إلى طيب، وتكون توجيهاتك أن تحول الناس إلى طيبين بما تعنيه الكلمة، لكن لا تعتقد أن المسألة متروكة – عندما يقول: لا يستوي الخبيث والطيب – سيميز الخبيث من الطيب، هذه سنة إلهية، وتأتي بعضها من داخل الابتلاءات، هذا خرج من هنا، وهذا خرج من هنا.

وقد تقدم أحياناً؛ لأنه لاحظ هنا توجيهات مثل: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة: 98) {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}(المائدة من الآية: 99) قد تأتي مواقف مثلاً أمام فئة من الناس، يأتي آخر ممن هو حريص على أنه [الناس جميعاً]، ونريد الكل، وأشياء من هذه، فيقول: [لا تتجفى في هؤلاء لا يروحوا من يدينا، لا كذا.. ولا..] إلى آخره.. لا، القضية أنه عندما يتبين أن هناك خبثاً، إنْ كان باستطاعتك أن تصلحه ما لم لا عليك {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} إذا كان هذا خبثاً، إذاً مع السلامة لا تأس عليهم، ولا تأسف {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} فلا ينفع، الخبيث لا يقدم شيئاً.

{فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يأتي في أسلوب القرآن، أحياناً يأتي شيء أشبه شيء بقاعدة عامة، وتراها لها علاقة بكل ما سبقها من قضايا، الناس أليس فيهم خبيث وطيب؟ المأكولات أليس فيها خبيث وطيب؟ الأموال أليس فيها خبيث وطيب؟ النفوس أليس فيها خبيث وطيب؟ كم! تراه في كل شيء.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}(المائدة:101- 102) كل شيء له وقت؛ لأنه إن نزل القرآن وهو يتناول قضية معينة، ثم تستفهم استفهاماً عملياً باعتبار القضية لها علاقة بك، مثلاً نقول: إذاً كيف؟ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}(البقرة220) بعد تحريم أموالهم، لكن كيف يمكن نعمل مع اليتيم؟ هل نفصل ماله تماماً أو يمكن نجلس مع بعض؟ بعبارة تشبه هذه، لا بأس، وإلا فالأفضل في مسيرة التشريع بأن لا يكون هناك تساؤلات؛ لأنه يكون هناك قضايا مسكوت عنها ليست مُقرَّة، إنما ليس الآن وقت تناولها، لماذا؟ لأن الدين هذا دين عملي، ومسيرة عملية، وقد تأتي عندما تسأل يشكل سؤالك إحراجاً في القضية، عندما لا يأتي جواب يفهم الآخرون بأن ذلك الموضوع معناه مقر، فيقال: الإسلام أقر كذا، وهو لم يقره، أو ينزل مثلاً، ويقول بالحكم فيها، ويكون الواقع ما قد تأهل الناس لأن ينطلقوا فيها عملياً.

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}(المائدة: 102) ربما لو تأخروا لما أصبحوا كافرين، لكانوا قد صاروا متقبلين لها، هذا مما يؤكد أن الدين هو ماذا؟ مسيرة عملية، ليس الدين فتاوى فقط، تشريعات وكتابة، دين عملي، مسيرة من البداية كلها مسيرة عملية.

{مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}(المائدة: 103) هنا ينزه نفسه سبحانه وتعالى عن أن ينسب إليه هذه الأشياء مع أنها تبدو قضايا عادية، أليست تبدو عادية باعتبار تأثيرها في المجتمع، البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فيما يتعلق بالدواب هذه: الإبل والضان، أما مثلاً يحرمون أذنها، أو يشقون أذنها، أو أشياء من هذه.. أو يسيبها، فلا تعد تمنع من ماء، ولا من مرعى، ولا يحمل عليها، ولا.. هذه هل لها أثر اجتماعي في الناس؟ لها أثر سلبي؟ لا، لكن هي قضايا غير حكيمة فالله ينزه نفسه عن هذه باعتبارها ماذا؟ أشياء ليست حكيمة، وأشياء تافهة اعتبرها تافهة، لا يقوم عليها شيء. إذاً فمن يتنزه عن هذه فهو منزه عن الأشياء التي تنسب إليه وما أكثرها، تنسب إليه وهي تضر في نفس الوقت بالأمة وبالدين فهو منزه عنها.

{وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}(المائدة من الآية:103- 104) مع أنه قد يكون مما وجدوا عليه آباءهم أشياء مما لا قيمة لها فتكون متشبثاً بأشياء لا قيمة لها نهائياً، وتترك أشياء هامة، أو أن تكون أشياء في الواقع هي سيئة، باطل وضلال، تتشبث به في مقابل الهدى، هذا الهدى هو عظيم جداً، وله قيمة كبيرة، ماذا عمل آباؤكم؟ بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، أليست هذه؟ فهو مستعد أن يتمسك بهذه ولا يسير وراء هذا الهدى العظيم، أليس هذا يعتبر من الأشياء التي تبين كيف أن النفوس تنحط حتى لا تعد تعرف قيمة ما له قيمة في الواقع. {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} فسوف يسيرون خلفهم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة من الآية: 105) هذه من الآيات – أيضاً – التي يحصل فيها [ما عليك شيء لا يضركم من ضل، اترك]، معناها هكذا! لكن ماذا قرأنا من البداية؟ نحن الآن أمام أربع سور من القرآن، كيف تقدم المسألة؟ أن يتحرك الناس على أساس هدى الله، وكل الأطراف الأخرى، كل ما عملت لن تضرك في الأخير، لكن إذا كنت تتحرك على هدى الله، أليس هناك: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}(آل عمران: 111) {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}(آل عمران من الآية: 120) {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(آل عمران من الآية: 186) بين لنا كل الفئات هذه، فئات أهل الكتاب، فئات المشركين، المنافقين، كل فئات أعداء الله، مهما كانت عليه، مهما كانت قوتها، مهما كان تآمرها، إذا اهتديتم لن يضروكم على الإطلاق هؤلاء لن يعيقوكم، ولن ينالوا منكم، هذه القضية التي تعنيها الآية، هذه الآية عظيمة جداً، آية تشكل قاعدة صريحة {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} لكن نحن قلنا: أن كلمة هدى قد ضُربت، نفسها، وكلمة ضلال قد ضُربت، يعني: إذا قد أنا معتقد بأن الله لا يرى فلا يضرني ذلك الذي يعتقد بأن الله يرى، ويعملون ما يريدون، أليس معناها هكذا تقدم المسألة؟! المسألة أنه إذا كنتم تسيرون على هدى الله، وهدى الله يتناول القضايا العقائدية، والعملية، وكل شيء، بل العقائدية، هي عملية كلها إذا اهتديتم بهدي الله، وسرتم على هدى الله لن يضركم الآخرون، والآخرون إنما يكونون ضالين، أيضاً يقدم من يسيرون على هديه أنهم هم الوحيدون المهتدون، يقدم كل الفئات الأخرى ضالة؛ لأنه فعلاً الحق هو سبيل واحد، وطريق واحد، فمن يقابلون الحق، من يعتبرون هناك أطرافاً أخرى معناه: أنهم في ضلال، سواءً ضلال بنسبة (50%) أو (100%) أو كيفما كان.

{إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(المائدة من الآية: 105) هذا أيضاً تهديد لأن تترسخ هذه القاعدة في النفوس، وقدم في الأخير بعدما قدم لك صورة عن الهدى، عن وعوده، عن أعدائه، عن موقفهم الضعيف أمامك، وفي الأخير قال: الخلاصة {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إذاً فلتترسخ هذه في ذهنية كل واحد، ويعرف {إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

الآية الثانية: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}(المائدة من الآية: 106) قالوا أن عمر قال هي من أشد الآيات هذه، خربطة فيها، الشهادات. {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} لا يوجد غيرهم وأنتم في سفر {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} وأنت تريد أن توصي فلتشهد شهيدين سواءً عدل إن كان هناك، أو آخرآن من الحاصل {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ}.

والكلام فيها فيما يتعلق بهذا الشخص، وفيما يتعلق بالذين ما زالوا في البلاد، بالناس الذين هم وراءه، تحبسونهما أي فتؤدى هذه الشهادة إذا حصل ارتياب تحبسونهما، يعني: الشهيدين من بعد الصلاة فيقسمان بالله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في الشهادة حول موضوع الوصية، أو حول موضوع ما كان لديه من رأس مال، أو أي شيء من هذا {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} أي يقولون هكذا، فيقسمان بالله، إن ارتبتم {فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} ويذكر القضية كيف كانت، {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً}(المائدة من الآية: 107) أي كانت شهادتهم بشكل يبدو الواقع بخلافها، حصل شيء، عثر يعني: ماذا؟ اكتشف وعلم إذاً فللطرف هذا ماذا؟ أن يقدم شهادته الحقيقية التي تفضح الذين ماذا؟ عثر على أنهما استحقا إثماً.

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} أي الشاهدين {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} وكلمة عثر تعني: فيمن عثروا، وفيمن شهد ما عثروا عليه، أليست هكذا؟ من عثروا أي اكتشفوا شيئاً بطريقة معلومة {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} لأجل ألا تضيع الحقوق {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} معناه أن القضية بخلاف ما قدموها في شهادتهم، فلهؤلاء أن يقيموا الشهادة على هذا النحو {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} ممن القضية استحقاق عليهم بسبب شهادة الأولين، وعثروا على خلاف الواقع، على خلاف ما كانت الشهادة الأولى، فهم الأوليان بأن يعلنوا كيف الواقع، يقومان مقامهما {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} الأولى {فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}.

هذه هي من القضايا التي قد تكون نادرة أي نفس العملية هذه هي نادرة في مسيرة الإجراءات القضائية، في واقع الناس أليس المعنى هنا بأنه وكأن من يشهدون ويدلون بالشهادة هم المستحق عليهم؟ لكن القضية يبدو فعلاً فيها ما يكشف بطلان الشهادة السابقة، هنا تختلف مع ما يقال شهادة لنفسه، أليست تبدو شهادة لنفسه؟ هنا يقول: {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} من الذين استحق عليهم؟ طرف كانت القضية، الشهادة السابقة تعني: استحقاق عليه، يعني: اعتبر النقص عليه، أو أشياء من هذه، عثر، ومعنى هذا أن الشهادة هذه تعني ماذا؟ أن هناك طرفاً ثالثاً، أليس معناه: أن هناك طرفاً ثالثاً في القضية هذه مثلاً القاضي أو ولي الأمر أو كيفما كان، هو طرف ثالث في الموضوع، يستطيع أن يعرف القضية. وأحياناً فعلاً هذه القضية قد تكون نادرة مثلاً شخص سافر ومات، ولم يكن معه إلا اثنين، وشهدوا أن القضية كذا كذا، ثم تأتي قرائن، أحياناً قد تكون هناك قرائن من خلال كلامه قبل السفر، أو من خلال أشياء لا تزال، لا أحد يستطيع يعرف بالتفصيل تؤدي إلى كشف الحقيقة بخلاف ما شهدوا به، إذاً فهل يضيع الحق؟ هنا يبدو وكأن مَن هم المعنيين بالقضية ما يقال هم شهود لأنفسهم، هذه تعتبر شهادة لنفسك، هي قضية تخضع أيضاً لتقييم الطرف الثالث، يعني من؟ القاضي أو ولي أمر يعرف.

فعندما يعرفون بأنه هكذا الإجراءات أنها تعطي حقاً للمستحق عليه فيما إذا عثر على أن الشهادة كانت بخلاف الواقع، فهي أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها، على أساس أن الطرفين مما يقولونه قسم؟ أليس قسماً؟ {فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} هذه عبارات هامة، يعني: خطيرة العقوبة بعدها. {ذَلِكَ} هذا الإجراء {أَدْنَى} أقرب {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}(المائدة: من الآية108) عندما تكون خائفاً من أنك تفضح {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}(المائدة: من الآية108) خاصة إذا هو فاهم بأن للطرف الآخر – فيما لو اكتشف الحقيقة – هذا الإجراء سيؤدي الشهادة على أصلها…..

[بقية السورة يتناول موضوع عيسى] {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ}(المائدة: من الآية109) كيف كانت نسبة الإجابة، وهكذا هي تقريباً تتناول بشكل واسع موضوع عيسى بن مريم، وأنه نبي الله, عيسى بن مريم هو رسول من عند الله، رسول من عنده، وكيف أنه قال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}(المائدة: 111) وما قال للحواريين بالنسبة للمائدة؛ لأنه أيضاً في قضية المائدة عندما طلبوها ما يدل على أنهم هكذا: مؤمنين بأن عيسى إنما هو رسول، والله هو ربنا، ورب عيسى.

{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ألم يقولوا هكذا؟ {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(المائدة: 112) ففيها تقرير، وشهادة واسعة بأنه مما سيحصل في الآخرة، وما قد حصل في الدنيا، من طلب نزول المائدة هذه إلى ما ذكره من القضايا الأخرى بعدها {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} يتناول قضية رئيسية حول قضية الشرك به فجعلوه إلهاً بعدما قامت البينات في حياته بمنطقه هو، وأنه كان هو يعتقد أنه رسول فقط من عند الله، وأن الله هو ربه، والحواريون الذين هم خلص أصحابه هم الآن من قُدِمُوا، الذين يسمونهم رسل، وأصحاب أناجيل داخلها الشرك هذا، سموهم رسل أي: هم صفوة المسيحية، أو صفوة النصارى، وإن كان بعضهم في عصر عيسى، عاصروا عيسى، وعاشوا بعده! لا، إن واقع الحواريين الصفوة أنهم كانوا يرون عيسى عبداً لله، وأن الله هو رب عيسى وربهم.

{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ} بعدها {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}(المائدة من الآية: 116) إلى آخر الآية فيقرر بأن ما اعتقده النصارى من أنه رب، ثم قالوا: ثالث ثلاثة، أو بأي اعتقاد جعلوه إلهاً، أنها قضية كبيرة جداً، كفر شرك بالله، وأن عيسى يشهد عليهم بأنهم مشركون، هذا هو خلاصة معنى بقية السورة. في آخرها: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(المائدة: 120).

إلى هنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

[الله أكبر / الموت لأمريكا/ الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود/ النصر للإسلام]

التعليقات مغلقة.